(موقع القدس العربي)
مع ارتفاع الموجة الجديدة لحركة الحقوق المدنية واتساع تيارها، بعد موت جورج فلويد في مركز الشرطة في مدينة منيابوليس، يبرز الكثير من علامات الاستفهام حول دور الشرطة في الديمقراطيات الغربية.
الشرطة بمقتضى دساتير هذه الدول هي هيئة مدنية محايدة، ينحصر دورها في تنفيذ القانون، وأحكام القضاء، والمحافظة على الأمن العام. لكن واقعة موت فلويد خنقا، فتحت الباب على مصراعيه للتشكيك في حيادية الشرطة، والطعن في مصداقية دورها في المحافظة على الأمن العام، فهي بدلا من ذلك تمارس دورا عنصريا متعصبا غير حيادي، وتتسبب في تقويض الأمن العام وليس المحافظة عليه.
ورغم الاحتجاجات المستمرة منذ موت فلويد في 25 مايو الماضي، فإن غباء الشرطة يجعلها تصب الزيت على النار الملتهبة، مثلما حدث في واقعة إطلاق النار على أحد الشبان السود في أتلانتا مساء الجمعة 12 يونيو، ما أدى إلى مقتله.
وقد اتسع نطاق التضامن مع حركة (حياة السود مهمة)، بسبب عمق المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في الأوساط المهمشة، وليس السود فقط في العالم كله، من اليابان شرقا إلى كندا غربا. من أهم هذه المشكلات اتساع نطاق التفاوت في الثروة، والتمييز في التعليم وفرص العمل والعلاج والسكن، كذلك كشف انتشار وباء كورونا، أن معدلات الإصابة بالفيروس والوفاة بسببه، ترتفع في أوساط الفئات المهمشة الأفقر والأقل تعليما، والتي تعمل في أدنى السلم الاجتماعي للعمل.
ومن أجل حصار الوباء، كان من الضروري فرض قيود احترازية، تضمنت إغلاقا للكثير من الأنشطة الاقتصادية الأساسية، وحتى لا تنهار سبل المعيشة، فقد ظهر ما يمكن أن نطلق عليه (الإجماع الجديد)، على النقيض من (إجماع واشنطن). الإجماع الجديد يتضمن توسيع دور الدولة لتعزيز النمو، والحد من البطالة، وحماية الشركات من الانهيار، ودفع إعانات للعمال، وزيادة الإنفاق على الصحة، لضمان وجود نظام رعاية صحية كافية. هذا التوجه يتناقض مع (إجماع واشنطن)، الذي ظل يمثل الأساس للسياسات المالية والنقدية والتجارية لصندوق النقد والبنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية، ومجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي منذ عام 1989.
في مارس الماضي، تبنى الصندوق رسميا مع بقية المؤسسات، سياسة تقضي بالتوسع النقدي، وتخفيض سعر الفائدة، وزيادة الإنفاق الحكومي. ولم تقتصر هذه السياسة على الدول الصناعية فقط، وإنما أصبحت ركيزة السياسة الاقتصادية لمواجهة وباء كورونا، لتوفير السيولة الكافية للجهاز الإنتاجي وأسواق المال ومؤسسات الخدمات والشركات في كل المجالات، حتى لا تنهار مع فرض القيود والإجراءات الاحترازية.
وقد ترافق فرض هذه الإجراءات مع تفويض الشرطة بمراقبة مدى التزام المواطنين بها، بما في ذلك مراقبة حركة التنقلات والسفر والتجمعات، ما ترك شعورا لدى الضباط العنصريين، بأنهم أصبحوا في وضع أقوى في مواجهة الأفراد. ونظرا لأن أجهزة الشرطة تقع ضمن منطقة نفوذ البيض في الولايات المتحدة، وفي دول أوروبا والدول الصناعية بشكل عام، فقد كان من الطبيعي أن ينعكس الدور الجديد في زيادة الشعور بالتفوق تجاه الآخرين، خصوصا الفئات المهمشة، مثل المواطنين من أصول افريقية ولاتينية وآسيوية. ففي بريطانيا على سبيل المثال تبلغ نسبة المواطنين من أصول افريقية في الشرطة حوالي 1% فقط، وكذلك الأمر في أوساط القضاة.
هذا البنيان المؤسسي الذي يترجم حالة قوية من التمييز ضد المهمشين وأبناء الأقليات، تسبب أيضا في زيادة الميل لإساءة استخدام السلطة من جانب ضباط الشرطة في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، منذ ما قبل ظهور وباء كورونا، خصوصا منذ أن تولى السلطة الرئيس الحالي دونالد ترامب. هذا يعني أن الشرطة مع انتشار فيروس كورونا وزيادة دور الدولة بشكل عام، تمتعت بميزتين كبيرتين، الأولى هي توسيع نطاق النشاط الذي تقوم به، والثانية هي الشعور بالمزيد من التفوق والميل إلى إساءة استخدام السلطة. في هذا السياق فإن موت جورج فلويد اكتسب دلالات كبيرة، وتسبب في تفجير الموجة الجديدة من حركة الحقوق المدنية التي تتخذ شعار «حياة السود مهمة». هذه الحركة تطرح الآن بقوة إعادة النظر في دور الشرطة، التي ترد على ذلك بالدعوة إلى تقييد الاحتجاجات بذريعة تهديد الحياة والأمن العام. وتتبنى حركة الاحتجاج الآن، مطالب تقليل التمويل المتاح للشرطة، وإصلاح تكوينها وأساليب عملها، بزيادة مستويات التأهيل والتدريب، والحد من سلطة الضباط في تقييد حرية الأشخاص المشتبه فيهم، وفتح الأبواب لتشغيل نسبة أكبر من ذوي الأصول الافريقية واللاتينية والآسيوية في أجهزة الشرطة، بما يكفي لتمثيل التنوع المجتمعي داخل الجهاز المختص بتنفيذ القانون وتحقيق الأمن العام. لكن الدعوة إلى إعادة النظر في دور الشرطة تجاوزت مجرد تحقيق الإصلاحات المذكورة، وبلغت حد إعادة النظر في هذا الدور بشكل عام، بما يحقق هدفين، الأول هو حصر نشاطها وتضييق نطاق دورها، بقصر هذا الدور على أعمال مثل تنفيذ أحكام القانون، وحماية الأمن العام من الجريمة بكل أشكالها. الهدف الثاني الحد من هامش إساءة استخدام السلطة، بتقليص الصلاحيات الممنوحة للضباط، خصوصا تلك التي يمكن أن تؤدي إلى الموت، مثل الخنق بقصد شل حركة الشخص المشتبه فيه، وإطلاق الرصاص الذي يمكن أن يفضي إلى الموت، مع إخضاع أفراد وأجهزة الشرطة للرقابة القانونية وأحكام القضاء.
يقول أليكس فيتالي عالم الاجتماع الأمريكي المتخصص في دراسات الجريمة في كتابه «نهاية العمل البوليسي»، أن دور الشرطة امتد إلى مجالات تعكس فشل الدولة اقتصاديا واجتماعيا، ويتهم الدولة بأنها بدلا من أن تجتهد في إيجاد حلول للمشاكل، فإنها تكلف الشرطة بالتعامل مع تلك المشاكل نيابة عنها. ويضرب فيتالي عددا من الامثلة تشير إلى الجرائم التي تنتج عن البطالة، أو عن عدم وجود مسكن، أو عن مرور شخص بضائقة نفسيه او اجتماعية، أو عن إدمان المخدرات. ويقول إن الدولة أوكلت إلى الشرطة القيام بجمع المشردين من الشوارع، أو القبض على اللصوص والنشالين، الذين يرتكبون جرائمهم لغرض الحصول على مال لشراء المخدرات، بدلا من أن توفر الوظائف والمساكن والمستشفيات للعلاج وإعادة التأهيل. وذكر أليكس فيتالي في كتابه الصادر عام 2017، أن سياسات التقشف، وازدياد حدة التفاوت في توزيع الثروة، وانعدام المساواة في الفرص، تسبب في زيادة معدلات الجريمة، وتوسيع الدور الذي تقوم به الشرطة على حساب الحريات الفردية.
كثيرون من قيادات الحركة المدنية في الولايات المتحدة، يتبنون حاليا أفكار البروفيسور أليكس فيتالي، خصوصا بعد أن اتسع نطاق الاحتجاجات، على الرغم من إحالة المتهمين بقتل جورج فلويد للمحاكمة. ويعتقد المحتجون بقوة أن حادث مقتل فلويد سيتكرر، كما تكررت مشاهد مماثلة خلال الفترة الأخيرة. وقد ثبت صحة هذا الاعتقاد بمقتل ريشارد بروكس في أتلانتا مؤخرا، بعد إطلاق النار عليه بواسطة أحد ضباط البوليس.
ولا تقتصر الدعوة إلى ضرورة تغيير ظروف التمييز، وانعدام المساواة، على قيادات حركة الاحتجاجات المدنية، وإنما يتبنى هذه الدعوة الآن عدد من أعضاء الكونغرس، وحكام الولايات ومحافظي بنوك الاحتياطي الفيدرالي الفرعية في الولايات. ومع أن هؤلاء لا يقللون من أهمية وضرورة تضييق دور الشرطة، وإخضاع مسؤوليها للرقابة القانونية الصارمة، فإنهم يؤكدون على ضرورة إتاحة فرص متساوية في العمل والتعليم والسكن للمواطنين من أصول افريقية ولاتينية. يقول روبرت كابلان محافظ البنك الاحتياطي في تكساس، إن التفاوت وعدم المساواة في فرص التعليم والعمل والترقي الوظيفي، يتسبب في خسائر كبيرة للاقتصاد الأمريكي. وذكر في حوار تلفزيوني على قناة «سي بي سي» في عطلة نهاية الأسبوع، إن الأمريكيين من أصول افريقية ولاتينية، هم الأسرع نموا داخل قوة العمل، لكنهم لا يحصلون على الفرص الملائمة، ما يؤدي إلى ارتفاع معدل البطالة بينهم. ودعا إلى ضرورة الاهتمام بهم من نواحي التعليم والتدريب والإعداد للوظائف المهنية المتخصصة، لأن ذلك من شأنه أن يسهم في زيادة معدل النمو وزيادة الإنتاجية، ويقلل معدل البطالة والجريمة.
وعلى الرغم من ذلك، فمايزال الرئيس الأمريكي متحصنا داخل خندق الدفاع عن نظرية «تفوق الجنس الأبيض»، وعن السلطات الواسعة لضباط البوليس، بما في ذلك سلطة تقييد المشتبه فيهم بأساليب منها الخنق وإطلاق الرصاص. وتسجل التطورات في الأيام الأخيرة زيادة في حدة الاستقطاب بين تيار الحقوق المدنية ومناهضة العنصرية، وتيار اليمين القومي العنصري، الذي يعبر عن البيض في الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الصناعية في العالم مثل بريطانيا وفرنسا واليابان. الخطير في التطورات الأخيرة أن الأصوات من داخل الشرطة المنادية بتقييد حرية الاحتجاج والتظاهر السلمي، بذريعة ان ذلك يؤدي إلى زيادة قوة انتشار فيروس كورونا تلقى آذانا صاغية من بعض السياسيين.