(جريدة الأخبار اللبنانية)
يقول الفيلسوف العسكري الصيني صن تزو Sun Tzu إنّ «القوات العسكرية الناجحة كالنهر الجاري تغيّر مجراها وأساليبها باستمرار». «كوفيد ـــ 19» أجبر المؤسّسات العسكرية في العالم، على تغيير خططها وأساليبها واستراتيجياتها، فأدخل في قاموس الحروب الجديدة والمفاهيم العسكرية والأمنية تغييرات هائلة، وذلك مع دخول خطّ الأوبئة على الصراعات والحروب والاستراتيجيات الأمنية والهياكل الأمنية والدفاعية، فضلاً عن تحرّكات الجيوش والقطاعات العسكرية والأمن الاجتماعي ومجتمع الاستخبارات، إضافة إلى الأوراق السنوية الصادرة عن مجالس الأمن القومي National Security في دول العالم تحت عنوان «الاستراتيجية القومية»، التي سوف يتصدّر فيها «الأمن الصحي» المراتب الثلاث الأولى للتهديدات الوطنية، أو فوق القومية على الأقل.
الوباء من الناحية الجيوستراتيجية الدولية تطلّب استدعاء كل النظريات التقليدية في الأمن للمحاكمة مثل بقية إخواتها (النظريات في العلوم الاجتماعية)، والمرافعة ستكون لإعاده التفكير، بما جاء في مدرسة كوبنهاغن في العلاقات الدولية، أو بنظرية الأمننة Securitization Theory . وإن كنتُ لا أعتقد بأن التسيّس Politicisation يختفي من المشهد الأمني القادم في عالمنا الموبوء، لكن الفيروس سيمنح الثقة للعالم باري بوزان Barry Buzan الذي دعا، منذ وقت طويل، إلى إعادة النظر في موضوعات الأمن القومي من منظار أوسع يشمل أدوار الأفراد والحكومات في النظام الدولي، وعدم اقتصار هذا المفهوم على البعد العسكري، ليشمل كلّ جوانب الحياة المختلفة، بما فيها البيئية والصحية، ضمن إطار التهديدات العابرة للحدود، والأزمات والكوارث الطبيعية، وهي مهمّة جداً لفهم واقعنا المعاصر. هذا يحصل فعلاً بعد فتح موسوعة الحروب التي لم تغلق منذ أيام التهديدات النووية ومعارك الإرهاب التقليدي والحرب السيبرانية، وكما لا يبدو أنّ نظريات الأمن الجماعي سوف تعمل على إيجاد الحل بغياب الحارس الأمين على النظام العالمي.
عموماً، فإن استدعاء القوات المسلّحة للمشاركة في الأنشطة المدنية ليس بالجديد في سجل التاريخ. واليوم، يأتي خروج العسكر من الثكنات للمشاركة في مجالات الصحة والإغاثة، وكذلك دعم إجراءات التباعد الاجتماعي في مواجهة الوباء في مختلف دول العالم.
الرهان التاريخي، على أنّ يكون للمؤسسات العسكرية والجيوش دور في محاربة هذا العدو غير المرئي، بعدما كان تاريخياً الجندي والعسكري هو الناقل الأساس للأمراض والفيروسات. فقد انتقلت الإنفلونزا الإسبانية عبر المنظمة العسكرية للجيوش إلى أنحاء أوروبا في الحرب العالمية الأولى، كما تشير بعض المصادر.
وثمة إشارة استشرافية لأهمية الجيش في الحفاظ على الاستقرار في وقتَي السلم والحرب من قبل ميكافليلي Niccolò Machiavelli في كتابه «فن الحرب» The Art of War، عندما يقول: «أفضل القوانين والطقوس في العالم سوف يتمّ احتقارها وتُدهس تحت الأقدام، إذا لم تحظَ بالدعم من القوة العسكرية، كما ينبغي لها أن تكون، فهي مثل قصر مهيب مكشوف بلا سقف مُلئ بالجواهر والأثاث الباهظ، بالتأكيد سيتحوّل في الحال إلى خراب ودمار، لأنه لا يوجد معه سوى بهائه وثرواته للدفاع عنه من ويلات الطقس، فالجيش للدولة كالسقف يحمي ما بداخله».
بل إنّ عالم السياسة روبرت كابلان Robert Kaplan، قدّم تفصيلاً لأهم براديغمات الفوضى في المشهد الأمني في العلاقات الدولية، المتمثل بالأمراض والفيروسات وكذلك الندرة والاكتظاظ السكاني، كتهديدات تدمّر النسيج الاجتماعي لعالمنا المعاصر.
ليس من المبالغة القول إنّ هناك آثاراً استراتيجية مباشرة وغير مباشرة للفيروس على الأوضاع الأمنية أو الجيوسياسية في العالم لمدة ليست بالقصيرة. فبعض الحكومات لن تتنازل بسرعة عن حالة طوارئ لجميع الوحدات الفاعلة على المستوى الدولي، ولن تكفي المؤسسة المدنية لمواجهة هذه الحالة، لذلك سعت الحكومات إلى تجنيد قوّاتها المسلّحة للمساعدة في مكافحة الوباء.
لكن هناك تفاوتٌ في المعالجة، فهناك جيوش ما زالت تقاتل العدو التقليدي والمتمثّل بالأجيال الجديدة للإرهاب، في حين أنّ هناك جيوشاً لم تعد هناك حاجة لوجودها، سوى لتلميع الأسلحة القديمة في المتاحف العسكرية. لكن الجميع كان بحاجة إلى الدعم اللوجستي، ولهذا تصبح المهمة مركّبة ومعقّدة: يد تقاتل الإرهاب التقليدي، ويد أخرى تساهم في الإجراءات المدنية، الأمر الذي قد يسبّب ضعفاً في الأولويات وخصوصاً في عمليات الدفاع الداخلي أو الخارجي.
حالة إسبانيا
يمكن أن يكون المشهد الراهن جزءاً أساسياً في فهم العلاقات المدنية ـــ العسكرية في النظم السياسية
تقريباً، ساهمت معظم جيوش دول العالم في الجهد الساند لمواجهة الوباء. مثلاً، في الولايات المتحدة الأميركية كانت هذه المساهمة عبر بناء المستشفيات، بـ1900 مهمّة جوية و10 آلاف مهمّة نقل برّي، خلال أسبوع واحد. كذلك الأمر في المملكة المتحدة، التي وضعت ألفين من عناصر جيشها، للمساهمة في نقل إمدادات الطوارئ إلى المستشفيات والإجلاء وغيرها. وقد لعب الجيش الصيني (PLA) دوراً محورياً في جهود بلاده، إذ تمّت تعبئة ما لا يقلّ عن 10000 من الأفراد الطبيّين العسكريين لعلاج المرضى. هذا فضلاً عن مشاركة 15 ألف جندي في ألمانيا لمساعدة السلطات المدنية في التغلّب على الأزمة.
وفي مملكة إسبانيا، كانت لجيشها المشاركة الحثيثة في هذا المجال. منذ بداية الوباء، قال رئيس الحكومة بيدرو سانجيث: «نحن في حالة حرب». كان للجيش دورٌ أكبر في التصدّي للوباء، عبر تطهير المباني الحكومية والخاصة. لكن أهم وحدة عسكرية مشاركة، كانت وحدة الطوارئ العسكرية Unidad Militar de Emergencias، المسؤولة عن توفير الإغاثة في حالات الكوارث في داخل إسبانيا بشكل رئيسي، وفي الخارج إذا لزم الأمر، وتعدّ أحدث فرع للقوات المسلّحة الإسبانية. تأسست هذه الوحدة عام 2005 للتدخّل أثناء حالات الطوارئ التي تكون ناتجة من المخاطر الطبيعية، مثل الفيضانات والزلازل والعواصف الثلجية الكبيرة والظروف الجوية السيئة الأخرى، أو التدخّل لمكافحة حرائق الغابات، فضلاً عن مواجهة حالات الطوارئ المستمدّة من المخاطر التكنولوجية، مثل المخاطر الكيميائية والنووية والإشعاعية والبيولوجية.
كذلك، قام نحو ثلاثة آلاف طبيب عسكري إسباني بمساندة قطاع الصحّة المدني، حتى تمّ إرجاع بعض من الذين أحيلوا على التقاعد إلى الخدمة. إضافة إلى ذلك، شارك الجيش في تنفيذ عمليات التطهير في المرافق الحيوية، بمعدل 200 إلى 300 موقع يومياً.
مؤسّسات الجيش الإسباني، قامت أيضاً بصنع الكمامات، وتخييطها على الماكينات وبناء المستشفيات الميدانية، مثل المساعدة في تحويل أرض المعارِض في إسبانيا Ifema إلى مستشفى لمعالجة الوباء. وكان التحوّل الكبير في أنّ الجيش الإسباني كان مرحّباً به، حتّى في مناطق ذات نزعات انفصالية سابقة، مثل إقليم كتالونيا وغيره، واستطاع أن يكسب ثقة الجميع.
العلاقات المدنية ـــ العسكرية:
عموماً، يمكن أن يكون المشهد الراهن جزءاً أساسياً في فهم العلاقات المدنية ـــ العسكرية في النظم السياسية من خلال النقاط التالية:
1. كانت الحرب والقوة متلازمة طبيعية للعمل في أيّ دولة (عسكري/ سياسي)، لكن المعركة الجديدة تتطلّب دخول ضلع ثالث (الطبيب)، وعلماء الاختصاص، ليصبح (مثلث الإدارة) لمدّة ليست بالقصيرة في النظام العالمي.
2. لا يمكن إنكار أنها فرصة لكي يتحوّل التحدّي إلى ساحة تدريب في مجال التخطيط والاستجابة لمواجهة وإدارة الأزمات.
3. سجلّ الأزمة في هذه الوباء، تطلّب أن يكون للمجهود العسكري الدور والالتفات لأزمات أخرى مستقبلية، مثل أزمة الغذاء المحتملة، فضلاً عن أزمات أخرى.
4. يعمل بعض الدول على دراسات مكثّفة لتعزيز قدرات تلك المؤسسات في مجال الحروب البيولوجية والكيميائية وغيرها من الحروب الجديدة في القاموس السياسي.
5. هناك مؤسسات عسكرية سبق لها العمل بشكل فاعل في العمل المدني، عبر مؤسسات تنموية كما هي الحالة التي وجدتها في مصر. ولكنّ نظام التدريب العسكري سيفرض على خدمات الطوارئ المدنية، رغبة في الاستفادة من الأعداد الضخمة للقوات المسلّحة وقدراتها. وقد يكون لذلك أثر استراتيجي مستقبلي على شكل الحروب أو الصراعات العسكرية المباشرة.
6. قد نشهد تصاعداً لتيار أمننة الوباء، وهو يأتي في سياق توسّع مفهوم الأمن القومي من التعريف التقليدي العسكري الكلاسيكي إلى أمننة المجتمع فضلاً عن الهويات، ليشمل كلّ ما يتعلّق بتعرّض المجتمعات إلى المخاطر المباشرة التي تهدّد وجودها، فضلاً عن أمنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصحّي. وبالتالي لن تقتصر الحالة على دور تلك المؤسسات في حالة الحرب فقط كما هو المعهود، بل سيكون لها تأثير في حالة السلم.
7. توقفت الواجبات العسكرية التقليدية، وكما حصل في إيقاف المناورات العسكرية مثل مناورة حلف شمال الأطلسي Defender-Europe 20.
8. إعادة نشر القوات الموزّعة في دول العالم.
9. شهد بعض الدول حالات نقد لتدخّل المؤسسات العسكرية في الحياة المدنية، لكونها تعبّر عن حالة من عدم الاستقرار السياسي. ووصفَها البعض بأنها فرصة لتثبت تلك المؤسسات السيطرة وتعزيز قبضتها في الشارع.
10. سابقاً، كانت مشاركة القوات العسكرية في حالات الطوارئ طبيعية في حالات مثل الفيضانات أو الكوارث الطبيعية، لكن ليس بهذه الأعداد المشاركة في مواجهة الوباء.
11. لا يمكن تجاهل احتمالية استغلال الجماعات الإرهابية وبقايا «داعش» و«القاعدة» للوضع، لإجراء عمليات مباغتة كما حصل في العراق.
12. يعمل بعض مراكز الأبحاث الطبية التابع للجيوش في بعض الدول، على تطوير لقاح وعقاقير في مواجهة الوباء.
13. لم يساهم الفيروس في وقف الصراعات المسلّحة في بعض دول العالم، ولا توجد مؤشرات على إيقاف تلك الحروب، مثل ما يحصل في ليبيا أو اليمن.
14. يمثل الوباء محطّة اختبار لكثير من الجيوش، التي لم تختبر حكوماتها من قبل قياس القابلية في القدرة على الانضباط والكفاءة والتخطيط.
15. بدت هناك حاجة إلى عملية فرض إجراءات وتدابير أمنية مثل عزل المدن، أو فرض الأمن والنظام في بعض المناطق التي تضرّرت بصورة واسعة من المرض.