الكاتب: محمد العريان
المصدر: ذا غاريدان
كتب محمد العريان، كبير المستشارين الاقتصاديين لدى "أليانز"، والذي شغل سابقاً منصب رئيس مجلس التنمية العالمية للرئيس الأميركي باراك أوباما ونائب مدير سابق في صندوق النقد الدولي، مقالة في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية عن مستقبل الاقتصاد العالمي. والآتي ترجمة نص المقالة:
ماذا يحمل المستقبل للاقتصاد العالمي؟ الجواب الأكثر احتمالاً، لسوء الحظ، هو انخفاض النمو، وتفاقم عدم المساواة الاجتماعية، والأسواق المالية المشوهة، والمخاطر المالية المتزايدة. لكن هذه النتيجة ليست مقدرة. إذ من خلال التغييرات التي تطرأ في الوقت الملائم على نموذج السياسة، يمكن لواضعي السياسات أن يضعوا الأساس لاقتصاد أكثر ديناميكية وشمولية ومرونة.
كان الضرر الاقتصادي الذي أحدثته أزمة وباء كورونا في الربع الثاني من عام 2020 أسوأ مما كان متوقعاً: فقد انخفض النشاط الاقتصادي، وارتفع التفاوت الاجتماعي، وابتعدت الأسواق المالية المرتفعة عن الواقع الاقتصادي. ومع عدم تطوير لقاح للفيروس بعد، فإن مسار الخروج من الوباء ومن والأزمة الاقتصادية المرتبطة به، لا يزال غير مؤكد إلى حد كبير.
تحذر المؤسسات الاقتصادية الدولية الرائدة في العالم - كصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، والبنك الدولي - الآن من أن الاقتصاد العالمي قد يستغرق عامين على الأقل لاستعادة ما فقد نتيجة جائحة فيروس كورونا. وإذا واجهت الاقتصادات الرئيسية موجات إضافية من تفشي الوباء، فإن التعافي سيستغرق وقتاً أطول.
يمكن للسياسات المؤيدة للنمو في الوقت المناسب والمصممة بشكل جيد أن تسرّع هذا الجدول الزمني، مع جعل التعافي على نطاق أوسع وأكثر استدامة. وهذا لا يعني المزيد من الإغاثة على المدى القصير فحسب، بل يعني كذلك تركيزاً أكبر على التدابير التطلعية التي تعزز الإنتاجية، وتقلل من انعدام الأمن الاقتصادي للأسر، وتنسجم بشكل أفضل مع دوافع النمو المحلية والدولية، وتواجه الانفصال المتزايد بشكل خطِر بين النظام المالي والاقتصاد الحقيقي.
فالولايات المتحدة، باعتبارها أكبر اقتصاد في العالم، لها في هذا الصدد دور قيادي مهم. بصفتها مورد العملة الاحتياطية العالمية الرئيسية، تلعب الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في حشد وتخصيص الأموال القابلة للاستثمار في العالم، وبخاصة في وقت يتدخل فيه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بكثافة في الأسواق المالية العالمية. وباعتبارها لاعباً مهيمناً في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة السبع ومجموعة العشرين، يمكن لأميركا أن تقود - أو تقوّض - تنسيق السياسات العالمية.
في حين أن صانعي السياسة الأميركيين بشكل عام هم أكثر استعداداً لمتابعة سياسات تعزيز النمو، فإن قدرتهم على القيام بذلك مقيّدة بشكل متزايد بسبب السياسات المحلية الغادرة. نعم، كانت حزمة الإغاثة في مواجهة وباء "كوفيد -19" بقيمة 3 تريليون دولار عرضاً رائعاً للحزبين الجمهوري والديمقراطي. ولكن، مع ارتفاع حالات الإصابة بمرض كورونا وظهور التوترات الاجتماعية - والتي تجسدها احتجاجات واسعة النطاق على الظلم العنصري وعنف الشرطة - عاد المشرعون الأميركيون إلى استقطاباتهم. ونتيجة لذلك، يبدو التقدم في إرساء أسس النمو على المدى الطويل احتمالاً بعيداً، بما في ذلك في المجالات التي يبدو أن هناك اتفاقاً بشأنها بين الحزبين، مثل البنية التحتية و(إلى حد أقل) إعادة تدريب العمال وإعادة تجهيزهم.
يمكن رؤية انفصال مماثل بين الإرادة والقدرة في استجابة السياسة النقدية الأميركية. فالبنك الاحتياطي الفيدرالي على استعداد للقيام بكل ما في وسعه للحد من الأضرار الدورية والهيكلية لسوق العمل، والتي تشمل أكثر من 46 مليون شخص قدموا طلبات للحصول على إعانات البطالة. لكنها تفتقر إلى كل من الأدوات الفعالة والدعم من صانعي السياسات المالية، الذين هم أفضل تجهيزاً لتعزيز النمو الدائم.
مع وجود عدد قليل من الخيارات لتعزيز النمو الاقتصادي الحقيقي، شعر مجلس الاحتياطي الفيدرالي بأنه مضطر إلى اتخاذ خطوات لم يكن ممكناً التفكير فيها مسبقاً لكنها تشوّه بشكل متزايد عمل الأسواق المالية، مما يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة في الثروة وتشجيع المخاطرة المفرطة من قبل كل من المدينين والمستثمرين. وبدلاً من كونه جزءاً من الحل، يواجه الاحتياطي الفيدرالي الآن خطر خلق المزيد من المشاكل، بما في ذلك سوء تخصيص الموارد، وتراكم الديون، وعدم الاستقرار المالي، وهي أمور كلها من شأنها أن تقوّض النمو الاقتصادي.
النية والنتيجة هما كذلك غير متوازنين في العلاقات الاقتصادية الدولية. في سعيها لجعل النظام التجاري العالمي أكثر عدالة، اتبعت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سياسات ثنائية قوّضت التدفقات التجارية. الولايات المتحدة هي الآن الأكثر حمائية بين الاقتصادات المتقدمة.
وعلى نطاق أوسع، في الوقت الذي تتطلب فيه الأزمات العالمية المتعددة تنسيقاً وثيقاً لاستجابات السياسة الفردية والجماعية، تجنبت إدارة ترامب التعددية في التنسيق والاستجابة. وبالنسبة لبعض البلدان في آسيا، على وجه الخصوص، أصبحت سياستها الخاصة غير قابلة للتنبؤ بشكل متزايد، مما أثار الشكوك حول متانة وموثوقية نظام عالمي تحتل الولايات المتحدة جوهره. فالصين، على سبيل المثال، سارعت في جهودها لتعميق الروابط الثنائية والإقليمية حتى تتمكن من تجاوز الولايات المتحدة، ولكن على حساب تفتيت النظام الدولي.
ينقسم صانعو السياسة في الولايات المتحدة حول العديد من القضايا، ولكن من المؤكد أنهم يمكنهم الاتفاق على الرغبة في تحقيق نمو أسرع وأكثر شمولًا وأكثر ديمومة. الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك على نحو مستدام هي مرافقة تدابير الإغاثة قصيرة المدى مع سياسات مالية مستقبلية مؤيدة للنمو (ومؤيدة للعمل) وإصلاحات هيكلية. وإلا، يمكن أن تصبح المشكلات التي يمكن أن تكون قابلة للعكس على المدى القصير، مثل ارتفاع معدلات البطالة، عميقة الجذور وأكثر صعوبة في معالجتها.
ويجب على البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي توخي المزيد من الحذر في كيفية تدخله في الأسواق. من خلال التوسيع المتواصل لنطاق برامج شراء الأصول ومدى وصولها، فإن البنك يجرد الأسواق من قدرتها على تسعير الموارد وتخصيصها بشكل مناسب. فإذا لم يكن الأمر دقيقاً، فقد ينتهي الأمر بالاحتياطي الفيدرالي بسحب البساط من دون قصد من النظام الأميركي القوي القائم على السوق، ودعم شركات الزومبي (الاحتيالية) التي تضعف الإنتاجية، وتقليل احتمال أن يؤدي النمو الاقتصادي الحقيقي في النهاية إلى التحقق من أسعار الأصول المرتفعة.
وأخيراً، يجب أن يعمل صانعو السياسة الأميركيون معاً لاستعادة القيادة الاقتصادية العالمية لبلدهم، من خلال تنشيط مناقشات السياسة المتعددة الأطراف وتحسين أداء النظام العالمي القائم على القواعد. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي على الولايات المتحدة إحياء الجهود المتعثرة لإصلاح إدارة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بما في ذلك عبر جعل التمثيل يتماشى مع الحقائق الاقتصادية الحالية والعمل على زيادة موارد الصندوق.
أما الدول الأخرى فيجب ألا تقلل من أهمية هذه التغييرات لأدائها الاقتصادي الخاص بها. بغض النظر عن حجم الاقتصاد، فمن المحتمل أن يتأثر بالنمو الاقتصادي الأميركي والاستقرار المالي الدولي وآثار السياسة النقدية. مع أزمة وباء كورونا، أصبح تطور نموذج السياسة الاقتصادية العالمية أمراً ملحاً. والتحدي الذي يواجه البلدان الأخرى الآن هو الحد من "مخاطر التنفيذ" الأميركية، من خلال القيام بكل ما في وسعها داخل بلدانها لضمان أن تعزز دوافع النمو نفسها ذاتياً وقيام نظام دولي أكثر عدالة.