نقلًا عن الجزيرة نت
كشفت جائحة كورونا أن هناك نقصًا حادًا في كل دول العالم بما فيها الأكثر تقدمًا، وشمل هذا النقص أعضاء الفرق الطبية المؤهلين للتعامل مع مثل تلك الأوبئة العالمية، مما وضع العالم بأسره أمام تحدٍ كبير في المستقبل يفرض علينا ضرورة توفير وإعداد مثل هذه الكوادر الطبية وتعليمها وتدريبها ووضعها على أهبة الاستعداد دائمًا.
وأظهرت مقولة "الجيش الأبيض الطبي" أن هذا الجيش لا يقل أهمية عن الجيوش الحربية، بل أحيانا يفوقها أهمية كما يحدث الآن.
وقد ظل الطب لفترات طويلة مقسمًا إلى قسمين أساسيين هما: الطب العلاجي والطب الوقائي.
ودائما كان الطب العلاجي يجتذب النابهين والمتفوقين من دارسي الطب، وهم الصفوة التي تحلم بممارسة الطب في المستشفيات والمراكز المتخصصة وعلاج المرضى وبناء شهرة واسعة، ثم المستوى المادي المرموق.
فيما ظل الطب الوقائي -الذي يشمل الصحة العامة ومكافحة الأوبئة والترصد الوبائي والأمراض المعدية ومراقبة الأغذية والتثقيف الصحي والصحة المدرسية والتطعيمات وطب الصناعات وغيرها من المجالات شديدة الأهمية- يُدفع إليه فقط قليلو الحظ من الأطباء وأصحاب معدلات النجاح المنخفضة، وأحيانًا على سبيل العقوبة فإن من يرتكب خطأ ينقل تعزيرا إلى الطب الوقائي.
وظلت هذه الثقافة العجيبة سائدة لعقود طويلة، بل إنها ما زالت إلى يومنا هذا مع الأسف الشديد.
ورغم أن دول العالم وأنظمتها الصحية والمنظمات الدولية -وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية- تعلم وتقر بخطورة الطب الوقائي وأهميته الشديدة لصحة المجتمع بأسره وأنه عماد الصحة بالمجتمع فإن الجميع ساهم في هذه الجريمة بل الخطيئة، وتم إهمال وتجاهل الطب الوقائي لصالح الطب العلاجي في كل شيء، في التخطيط والموازنة والتدريب والتأهيل والإستراتيجيات الصحية، وما زرعناه في عقول الناس لعقود طويلة بدأنا نعاني منه الآن مع كوفيد-19.
إن الوقاية هي خط الدفاع الأول للحفاظ على حياة البشر، وهي بسيطة وسهلة وغير مكلفة، فيكفي فقط أن نقارن الإجراء الوقائي والإجراء العلاجي مع كوفيد-19، فنقارن سعر القناع الواقي والقفازات وغسول اليد بسعر جهاز التنفس الصناعي وتكاليف مستهلكاته وتشغيله، ليتضح لنا الأمر بكل بساطة كمقارنة بين عدة دولارات أمام الآلاف منها.
إذًا، لا مناص أمامنا من إعادة ترتيب الأولويات الصحية، وإعادة الاعتبار إلى الطب الوقائي، وإعطائه الأهمية المستحقة له .
إن الحاجة ماسة لدراسة الأوبئة دراسة علمية ودقيقة، وأيضا التفشي الوبائي والجائحة العالمية، وكيف تم التعامل معهما سابقًا، وحالات النجاح والإخفاق والاستفادة من ذلك، وأخذ الدروس والعبر التي تساعدنا على وضع إستراتيجيات جديده للمستقبل العالمي للصحة.
يضاف إلى ذلك تعديل مناهج التدريس في كليات الطب للتركيز على الطب الوقائي، خصوصًا علم الأوبئة، وتدريسه كمادة أساسية تشمل تاريخ الأوبئة في الدولة والإقليم والعالم، وتصميم خطط إستراتيجية للترصد الوبائي وتوقع حدوث الأوبئة والتعامل معها، والتدريب على مكافحة الجائحة العالمية في حال حدوثها مستقبلا، ومن المواد الواجب إضافتها الطب العالمي، ونظرة على الصحة في العالم، والمشكلات الصحية، وكيفية التعاون وتبادل الخبرات الطبية.
ويمكن استخدام آليات جديدة مثل التعليم عن بعد و"تلي ميديسن" والذكاء الاصطناعي أيضا، وهي وسائل حديثة تواكب المستقبل وتنشر التعليم الطبي المستمر والخدمات الطبية على أوسع نطاق وبأقل النفقات، وتشجع الباحثين على عمل دراسات وأبحاث فيما يخص هذا الجانب لتطوير الصحة مستقبلا.
وقد آن الآوان لتصحيح وضع الأطباء والعاملين في مجال الصحة وإعطائهم حقوقهم كاملة، ووضعهم في المكانة المرموقة التي يستحقونها، وجعلهم مناط التكريم في المجتمعات، وإعادة حقوقهم المادية من رواتب ودرجات اجتماعية، وإلا ستكون القدرة على إقناعهم مستقبلا في أي جائحة أخرى شبه مستحيلة، وسيكون التفاني في العمل وبذل نفوسهم من أجل الدفاع عن الآخرين ضربا من الخيال، خصوصا في الدول النامية والفقيرة.
إن تعريفات أساسية جرى التعامل معها كثوابت ومسلّمات قبل كوفيد- 19 كمفهوم الصحة العامة والوقاية والطب الوقائي ودوره، والوباء والتفشي الوبائي والجائحة العالمية والصحة العالمية والتعاون الصحي الإقليمي والدولي باتت في تقديري تحتاج الى إعادة نظر، بل وتعديل أحيانا.
وهناك ضرورة لنشر الوعي الطبي السليم والتثقيف الصحي في المجتمعات، وأيضا هناك ضرورة لوقف شطحات بعض الباحثين ونظرياتهم الافتراضية في علاج الأوبئة المستجدة كما روج مؤخرا لمصطلحات مثل "مناعة القطيع" و"الباسبور المناعي".
ومطلوب أيضا التعاون والتنسيق والشراكة المسؤولة بين دول العالم من أجل وضع إستراتيجية صحية للعالم ما بعد كورونا، بحيث تكون إستراتيجية موحدة وبعيدة المدى تشمل مناهج التعليم الطبي المستمر، كما تشمل التدريب قبل العمل وعلى رأس العمل، والترصد الوبائي والاهتمام الشديد بالطب الوقائي والصحة العامة، وإنتاج أدوية وأمصال للأوبئة المستجدة تكون في متناول جميع البشر دون تفرقة أو تمييز بين إنسان وآخر، مع رفع سقف الإنفاق والتعليم الطبي والوقاية والترصد الوبائي والبحث العلمي في مجال الصحة، بل والإنفاق عليها جميعا بسخاء يماثل الإنفاق والحمى العالمية على التسلح.
إن هذه جائحة كورونا هي أزمة صحية عالمية ضربت شعوب الأرض، وطالما أن المشكلة صحية فلا بد أن نعيد التفكير في النظم الصحية، وممارسة الطب وتدريسه بمنظور جديد يناسب الواقع المستجد.
لقراءة المقال من الموقع اضغط هنا