(جريدة الأخبار اللبنانية)
تقترح النتائج التي انتهت إليها أبحاث منظمة التجارة العالمية، وغيرها من منظمات اقتصادية دولية معنية، خلال «ما قبل كورونا»، أنّ المشاركة في «سلاسل القيمة» ـــ أو سلاسل العرض والإمداد العالمية التي تشترك فيها دول متعدّدة في وقت واحد ـــ تؤدّي أكثر من التجارة التقليدية البسيطة بين بلدين اثنيْن إلى التأثير إيجاباً على الأداء الاقتصادي لبلد معيّن؛ مع الاعتراف بتباين النتائج من حالة إلى أخرى. ومن الواضح أنّ البُلدان ذات الدخل المرتفع، وذات «الدخل المتوسط الأعلى» هي التي تستفيد، أكثر من غيرها، من هذه المشاركة، بينما لم نجد آثاراً واضحة من هذا النوع لدى البُلدان ذات الدخل المنخفض وذات «الدخل المتوسّط المنخفض».
إنّ المشاركة في السلاسل تزيد من مستويات الإنتاجية والدخل، كما أنّ «التحرّك لأعلى» ناحية قطاعات أكثر ممارسة للتكنولوجيا العالية، لا يحدث بصفة تلقائية وبصفة منتظمة، وقد وُجِد أنه بالنسبة إلى العديد من البُلدان النامية التي تشارك في سلاسل عرض عالمية رئيسية، هناك تغيّرٌ إيجابيٌ طفيفٌ في التركيب القطاعي لهذه المشاركة. وهنا يوجد تباين شديد، حيث لوحظ وجود حالات لتحوّلات قطاعية ضخمة في آسيا (وأقلّ من ذلك في أوروبا) مع تحرّك ملحوظ للخدمات عالية التكنولوجيا في الولايات المتحدة والصين وألمانيا واليابان.
تقترح البيانات المتاحة، أيضاً، أنّ ما يسمّى بـ«الجاذبية التجارية» Gravity (بمعنى مدى قوة انجذاب بلد معيّن إلى التجارة مع بلد آخر، في حالة القرب الجغرافي مثلاً) تفسّر جانباً من مشاركة بلد ما في سلاسل القيمة، بالإضافة إلى أنّ جودة المؤسسات، ونوعية البنية الأساسية، وتكلفة الوحدة الواحدة من العمل، هي محدّدات مهمّة للمشاركة في السلاسل، وأنّ القطاعات الأعلى تطوراً من الناحية التكنولوجية (كالخدمات المتطوّرة) تُعتبر أكثر تأثّراً بما قد يُفرض من الحواجز التجارية، من خلال علاقة معيّنة للارتباط السلبي: فكلّما قلّت الحواجز زادت التجارة في تلك القطاعات، والعكس.
ويعنى ذلك بالنسبة إلى السياسات وتوجّهاتها المختلفة، أنّه بغضّ النظر عن الدعوات المعتادة إلى توفير بنية أساسية ملائمة، و«تواصلية» أفضل Connectivity، وتحسين جودة المؤسسات، فإنّ هناك حاجة للبحث عن الصيغ الأكثر ملاءمة للتكامل على المستوى الإقليمي (كالتكامل العربي) من أجل معالجة أفضل لقضية تجاوز الحواجز التجارية، سواء منها التعريفات أم القيود غير الجمركية.
ولكن، إن تفاقم الوضع بعد «كورونا» أو أثناءها، ما الحال بالنسبة إلى بّلدان نامية مثل البلدان العربية، بما فيها مصر، حيث تضيق الخيارات أمامها، وهي ليست منخرطة أصلاً في سلاسل قوية للعرض والإمداد والقيمة المضافة على المستوى العالمي؟ وما الحال، وهي لم تنجح، عبر الزمن، في إقامة تشكيلة متجانسة قابلة للتطوّر لسلاسل القيمة على مستوى إقليمي (جهوي) ـــ عربي مثلاً، أو قلْ أفريقي على نطاق جزئي أو على نطاق كلّي قارّي؟ كما أنّ هذه البلدان النامية عامّة، والعربية خاصّة، لم يُقدّر لها أن تنجز عملية التحوّل الهيكلي لاقتصاداتها بما فيها عملية «التصنيع» المبتغاة؟ فلم تزل، في غالبيتها، معتمدة على محصول واحد أو محصولَيْن، في إطار النشاط الأوّلي، الزراعي والنفطي، أو هي بالتعبير الذي بات دارجاً: ذات اقتصادات «ريعية».
هل من مخارج محتملة للدول العربية، بما فيها جمهورية مصر العربية كمثال، في ضوء ما يُتوقّع من ركود اقتصادي عالمي لفترة مقبلة، في أعقاب «كورونا»، تطول أو تقصر على كل حال؟
نعم، وهنا نقترح ثلاثة مخارج ممكنة، هي ما يلي: 1ــ العمل على بناء نماذج لـ«التطوّر غير الرأسمالي»، من خلال قاعدة إنتاجية وصناعية صلبة موجّهة بالقواعد الإرشادية للاعتماد الوطني النسبي على النفس، والعدل الاجتماعي. 2ــ العمل في إطار مجموعة البُلدان النامية، لإعادة تفعيل الإطار الجامع لمنظمة التجارة العالمية ـــ بالتعاون مع بلدان مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا، من أجل حماية الإنتاج المحلّي في إطار القواعد المنظَّمة لهذه المنظمة العتيدة، وذلك في وجه محاولات تقزيم «المنظمة الأم»، كما هو معروف في ظلّ النزعات الحمائية المتشدّدة للإدارة الأميركية الراهنة. 3ــ الالتفاف على سلاسل العرض العالمية المهيمنة، من خلال قيادة محاولة جادة للعمل على إقامة سلاسل للعرض بين الدول العربية في مجالات قطاعية واعدة، مثل صناعة الأدوية وتجارة الخدمات. وفي ما يلي نقدّم محاولة ـــ عملنا عليها سابقاً ـــ في الاتجاه الداعي إلى بناء سلاسل القيمة المضافة العربية في الميدان العلمي والتكنولوجي، لمقاومة التهميش المفروض في إطار السلاسل العالمية المهيمنة حالياً، واستحثاث عملية النمو والتطوّر غير الرأسمالي في بلادنا.
نحو «سلاسل عرض» على المستوى العربي الجامع
قام صندوق النقد الدولي بإعداد تقارير ودراسات معمّقة حول سلاسل القيمة العالمية؛ ولكنّنا نجدها متحيّزة تجاه فرضية نابعة من الاختيار الأيديولوجي القائل بأنّ الطريق الناجع لزيادة الدخل والإنتاجية هو الارتباط بسلاسل القيمة العالمية؛ ويرتبط بذلك تفضيل فرضية التجارة المفتوحة والاقتصاد المفتوح، لدى طواقم صندوق النقد الدولي، دونما تحبيذ لتدخّل الدولة، ولو من أجل حماية الصناعة المحلية والوليدة على سبيل المثال. ولكن ربما لو أجرينا أبحاثاً مستقلّة لوجدنا نتائج مختلفة عن ذلك تماماً. وانطلاقاً من ذلك، نأمل من جماعات الباحثين العرب العمل على دراسات أمبيريقة واستقصائية قوية، من دون الالتزام المسبق بافتراض أفضلية السلاسل العالمية بالضرورة. وفي هذا الاتجاه، نحبّذ مقترباً فكرياً أقرب إلى فكرة السلاسل الإقليمية، بالتطبيق على جماعة اقتصادية عربية مبتغاة. فماذا نجد من استقراء الواقع الاقتصادي العربي الراهن بوجه عام؟
ولنلاحظ، في هذا المضمار، أنّ هناك مجموعات عدّة من البلدان العربية، مصنّفة بالمعيار الاقتصادي الكلّي العام. هناك مجموعة من البلدان الكبيرة نسبياً، من حيث المساحة وحجم السكان، بعضها منتجة للنفط والغاز تمثّلها السعودية والجزائر، وبعضها غير منتجة بصفة رئيسية للنفط أو ذات موارد شحيحة نسبياً، وخاصة مصر ثم العراق والسودان والمغرب؛ هذه البلدان الكبيرة جميعاً تنوء تحت حمل الاقتصاد التقليدي، الطاقوي وغير الطاقوي، وبكمّ سكّاني، وموارد مستغلّة أو غير مستغلّة، وباقتصاد هامشي خارج «التيار الرئيسي» لتوليد الناتج المحلي الإجمالي. وفي هذه الحالة، نجد أنّ إدخال الاستثمار الموسّع للتكنولوجيا الرقمية في قطاع المعلومات والاتصالات، على النحو القائم في العالم الصناعي وشبه الصناعي، إن تمّ بصورة عفوية أو غير مخططة، يكون غير مأمون العواقب على كل حال.
إنّ الأمر يقتضي في هذه الحالة، نوعاً من الإدخال «الانتقائي» لأدوات الثورة الرقمية ـــ المعلوماتية والاتصالية بالذات ـــ بهدف تسريع وتيرة التطوّر الصناعي، أي القيام بعملية التصنيع. بعبارة أخرى: تستهدف التكنولوجيا الرقمية هنا المساعدة في بناء ما قبلها، أي الصناعة، ولو غير الرقمية تماماً، وتطوير القاعدة الإنتاجية على وجه العموم. غير أنّ هناك، في ما نرى، مجموعة أخرى من البلدان العربية لا تتمتع بمقوّمات كفيلة بإمكان تحقيق الثورة الصناعية، ولو أنّ لها سابقة عمل وتطوّر في قطاعات أخرى (قطاعات خدمية كالمال والتجارة والسياحة والتعليم، أو قطاعات سلعية ممثلة في الصناعة الخفيفة)؛ وهي يمكن لها أن تعمل بأمان أكثر من أجل تبنّي شطر من آليات الثورة الرقمية، من دون أن تخشى الكثير. تلك هي حالة لبنان والأردن، وحالة تونس، والبحرين وعمان ـــ باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة، وخصوصاً إمارة دبي التي حقّقت في ما يبدو ولوجاً آمناً بالفعل إلى بشائر العصر الرقمي العالمي، كمشروع «مدينة عالمية» (غير عربية) بالذات على كل حال.
خمسة أو ستة بلدان عربية، إذن، مؤهّلة لبدء عملية الإدخال الآمن للثورة الرقمية، من دون مضاعفات متوقّعة كثيرة، إن هي أحسنت وضع الأولويات لها، وبرمجت التطور الرقمي على مدى الزمن بصورة واقعية ودقيقة. مجموعة ثالثة من البلدان العربية الأقل نمواً (مثل موريتانيا) والأكثر فقراً، أو ذات الظروف الخاصة وشحيحة الموارد (مثل جيبوتي)، أو التي تعاني من التمزّق الداخلي، مثل الصومال أو اليمن بصفة انتقالية حالياً ـــ وهذه كلها ينبغي أن يشملها العون العربي والخارجي لانتشالها من الظروف المعيقة.
تلك، إذن، ثلاث مجموعات من البلدان العربية من وجهة نظر التطوّر التكنولوجي الدولي المتسارع: في الطرف الأول، مجموعة من الدول الكبيرة؛ وهي لا بدّ أن تبني «استراتيجيات» انتقائية للتكنولوجيا الرقمية، تشمل السعودية ومصر والسودان والجزائر والمغرب. ومجموعة في المنتصف، وهي ما تسمى بالبلدان الأقل نمواً، وذات الظروف الخاصة. وفي الطرف المقابل للمجموعة الأولى، ثمّة مجموعة من البلدان الصغيرة نسبياً، يمكن أن تسمح ظروفها بتهيئة المجال الاقتصادي للتطوير التكنولوجي الرقمي بآفاقه العالمية. هذه المجموعات الثلاث، نقترح أن يكون لها إطار للعمل المشترك، في نوع من «سلسلة إقليمية للعرض» أو «سلسلة القيمة المضافة الإقليمية»، بفعل تشابه الظروف بدرجة معيّنة داخل كل مجموعة، وبين المجموعات الثلاث ككل. فهل نعتبر؟
إلى أيّ حدّ يكون هذا البديل الأخير المطروح ممكناً؟ يتوقّف ذلك على جانبين: أولهما مستوى ونوعية التطوّر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في البلدان العربية، أو في بعض منها، بما يسمح بإنضاج الظروف الموضوعية والذاتية الضرورية لإقامة وإنجاح نموذج للتطوّر غير الرأسمالي، يقوم على تشكيلة طبقية متجانسة في السياق الوطني التقدمي، عاملة على بناء القاعدة التصنيعية في إطار العدل الاجتماعي والاستقلالية النسبية على الصعيد الخارجي. ويتطلّب ذلك ممارسة دور فاعل ووظيفة تنموية للدولة الوطنية، في إطار من توزيع الأدوار بين القطاع العام والقطاع الخاص «غير المستغل»، والقطاع التعاوني و«قطاع الإنتاج السلعي والخدمي الصغير والمتوسط».
أما الجانب الثاني، فيتعلّق بالبدائل الممكنة للتطوّر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة الأميركية، على وجه التحديد، وانعكاسه على الدور الخارجي لهذه الدولة. علماً بأنّ هذا الدور سوف يتعرّض لتنازع بين تصوّرات عديدة لدور الدولة الأميركية في العالم المتغيّر، وخصوصاً بين اتجاهين: اتجاه «انكفائي» ربما يعيد التركيز على التقاليد المرتبطة بالإمبراطورية البحرية، مع فناء خلفي في الجنوب، وقوة عسكرية تكفل حماية المصالح الاقتصادية في الكون الفسيح. واتجاه آخر مغاير يواصل الاعتماد على تشديد تحكّم «المركب الصناعي ـــ العسكري»، بواسطة «البنتاغون» والشركات الكبرى، ويراوح دائماً بين دورة زمنية للتهدئة النسبية على الصعيد الخارجي، ودورة أخرى للعنف الموسّع والحرب. ونحن نظن أنّ الاتجاه الثاني هو الأغلب، بعدما «تذهب السَّكْرة وتجيء الفكرة»... ولننتظر التاريخ ليقول كلمته بعد حين، بمَكْرِه وكرِّه وفرِّه. ولربّما لن نُضطرّ إلى الانتظار كثيراً على كل حال...!