(جريدة الأخبار اللبنانية)
لم يكن تطبيق «الحجر الصحي» على تجمّعات سكنية كاملة تجربة سهلة، إذ أنه أدّى إلى مضاعفة الضغوط الاقتصادية التي يواجهها الأهالي، فيما وَضَع المؤسسات الرسمية أمام مسؤولية لم تَعتَد عليها سابقاً، ولا تملك ما يؤهّلها للنجاح في تحمّلها
أربع مناطق في سوريا خضعت لإجراءات الحجر الصحّي منذ الإعلان عن تسجيل أوّل إصابة بفيروس «كورونا» في البلاد، وهي: منين، السيدة زينب، جديدة الفضل ورأس المعرّة. هذه البلدات عادت جميعها إلى حياتها الطبيعية بعد تأكيد وزارة الصحة أن نتائج المسحات المأخوذة من سكّانها جاءت سلبية، وآخرها رأس المعرّة التي تمّ رفع الحجر الصحي عنها عصر أول من أمس. وكانت الحكومة اتخذت قرار الحجر، أسوةً بما فعلته الكثير من الدول، لمنع تفشّي الفيروس، وهو ما تعامل معه السوريون على أنه «شرّ لا بد منه». لكن ذلك لم يمنع ظهور العديد من المشاكل، في ظلّ شحّ المعلومات عن أوضاع تلك المناطق، واقتصارها على ما يعكس الرواية الرسمية، التي كانت تصوّر التجربة على أنها شبيهة بتجربة مقاطعة ووهان الصينية، حيث السلع والخدمات مؤمّنة من دون أيّ عناء وحتى من دون أيّ مقابل مادّي.
أما على الأرض، فقد كان الواقع خلاف ذلك تماماً، إذ عاشت أسر كثيرة معاناة مزدوجة: من جهة، الارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع، والذي وصل بحسب تقديرات بعض الباحثين إلى نحو 40 - 45 ضعفاً مقارنةً بأسعار عام 2010، في وقت ظلّت فيه مداخيل الأفراد عند حدود متدنّية، حيث متوسّط الرواتب لا يتجاوز الـ 60 ألف ليرة؛ ومن جهة ثانية، قصور أداء مؤسسات الدولة والوحدات الإدارية نسبةً إلى ما يتطلّبه الحجر الصحي من إجراءات واشتراطات، الأمر الذي اضطرّ الأسر إلى تحمّل نفقات إضافية، أو التأقلم مع الواقع الجديد من خلال التقشّف، أو طلب المساعدة بعد نفاد المدّخرات المالية (إن وُجدت).
فجوة الثقة
لم تكن ردّة فعل الشارع على إخضاع المناطق الأربع للحجر، واحدة، إذ أن السوريين المقيمين بعيداً عن تلك المناطق استغربوا الخطوة بعد إعلان عدم تسجيل أيّ إصابات ذات منشأ محلي لفترة طويلة، وهذا ما دعا البعض إلى المطالبة بإعادة فرض حظر تجوال جزئي داخل المدن، ومنع السفر بين المحافظات. أما في المناطق القريبة من البلدات المعزولة، فقد سادت حالة من الخوف، مصحوبة بحالات تنمّر أحياناً. وبحسب مواطن من بلدة رأس المعرة تحدث إلى «الأخبار»، فقد «كانت هناك حالة تنمّر كبيرة تجاه سكان البلدة، سواء من قِبَل المناطق المحيطة التي تهرّب بعضها من استقبال أيّ مريض مهما كان مرضه، أو من قِبَل المجتمع والمؤسسات الرسمية عبر تعاملها مع أبناء البلدة المقيمين خارجها، ومنهم الطلاب الموجودون في دمشق، والذين تمّت إعادتهم قسراً إلى بلدتهم من دون إجراء أيّ مسحات لهم، وتهديد مستقبلهم الدراسي لهذا العام».
تُرك السكان يحتكّون ببعضهم البعض من دون أيّ إجراءات احترازية أو توعوية
أمّا سكان البلدات الأربع، فقد كان لخبر إخضاع مناطقهم للحجر الصحي وقع الصدمة. وفي هذا الإطار، تقول الصحافية نسرين علاء الدين، المقيمة في بلدة جديدة الفضل، إنه «منذ الساعات الأولى للحجر سادت حالة من الخوف والقلق بسبب الوضع الاقتصادي السيئ لمعظم الأسر، وهو ما دفع الكثيرين للبحث عن أيّ طريق للخروج من البلدة». وتلفت في اتصال مع «الأخبار» إلى أن «هناك مشكلة سابقة في التواصل بين السكان والبلدية سببها عدم الثقة بوعود الأخيرة»، مضيفة أن «خطّة البلدية للاستجابة هي خطة إسعافية، لكنها غير مبنيّة على معطيات الواقع لجهة الاحتياجات الحقيقية وكيفية إيصال الخدمة إلى المستحقين، وهذا ما جعل المواطنين متخوّفين دائماً من احتمال تأثير المحسوبيات».
عزل بالاسم فقط
المفارقة أن عملية العزل كانت نظرية فقط؛ إذ ظلّت الحياة داخل البلدات الأربع على طبيعتها تقريباً، بل إن الازدحام في الأسواق كان أكبر مما هو في أيّ منطقة أخرى، في ظلّ نقص السلع المسموح بإدخالها إلى تلك المناطق. وبحسب علاء الدين، فإن «أبناء البلدة كانوا حذرين عند إعلان وفاة أول حالة في المنطقة، لكن إجراءات السلامة مكلفة مادياً للكثيرين؛ فمثلاً وصل سعر القفازات الطبية الرقيقة إلى أكثر من 500 ليرة سورية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سعر الكمامة العادية. أما المعقّم فهو أيضاً مكلف وغير موجود لدى جميع الصيدليات». ومع ذلك، فإن هناك «عدداً قليلاً من الأشخاص يرتدون الكمامات والقفازات، وهم إما كبار السن أو من العاملين الذين هم على تماس مباشر مع الناس. لكن الازدحام يبدو جلياً في المكان المخصص لتسليم المعونة، في الأسواق، عند مبنى البلدية، وغيره من الأماكن العامة».
وهذا أيضاً ما حصل في بلدة رأس المعرة، حيث «تُرك السكان يحتكّون ببعضهم البعض من دون أيّ إجراءات احترازية أو توعوية، وخاصة في الفترات التي شهدت فيها البلدة نقصاً في العديد من السلع والخدمات كالغاز مثلاً، فضلاً عن ارتفاع أسعارها وتفاوتها بين بائع وآخر»، وفق ما يفيد به مواطن من البلدة. وعلى رغم تسجيل تحسّن ملحوظ في بعض الخدمات العامّة مقارنةً بالأيام السابقة لتطبيق الحجر، إلا أن ذلك لم يخفّف من وطأة ارتفاع الأسعار، وغياب آلية عادلة وصحية لتوزيع المساعدات.
ربما يكون إخضاع أربع بلدات للحجر الصحي كافياً للمؤسسات الحكومية لتقييم نتائج تلك التجربة، بغية تفادي ثغراتها مستقبلاً، في حال اضطرار السلطات إلى فرض الحجر على مناطق أخرى، وخصوصاً مع تزايد عدد الإصابات المحلية المسجلة يومياً. لكن، باستثناء خطوة محافظ القنيطرة المتمثلة في إحالة رئيس بلدية جديدة الفضل وعدد من الموظفين في البلدية إلى النيابة العامة بـ«تهمة التستّر والسماح بمخالفات بناء ضخمة خلال فترة الحجر الصحي»، فإن أيّاً من الجهات الحكومية لم تبادر إلى اتخاذ إجراءات مشابهة تُشعر المواطن بحرصها على محاسبة مَن حاول استغلال الأزمة لمراكمة ثروات وأرباح على حساب المواطنين.