نقلاً عن موقع الجزيرة نت
كانت الساعة قد قاربت الثانية صباحاً يوم 21 مارس/آذار 2020 حين باغتتني قشعريرة جسدية وصداع مؤلم وارتفاع طفيف في درجات الحرارة، مما استدعى فورا سيناريو أن وباء "كورونا" (كوفيد-19) قد أصابني.
وما بين التعب الجسدي والقلق النفسي مرت ساعات الفجر ثقيلة حتى جاءت الثامنة صباحاً، وكنا في عطلة نهاية الأسبوع ومعظم العيادات الطبية مغلقة، فاضطررت للاتصال بوحدة طوارئ صحية خاصة بشمال ولاية فيرجينيا الأمريكية، وذلك للاستفسار عن إمكانية المرور عليهم للفحص السريري، وتحديد ما إن كنت بحاجة لعمل اختبار "كوفيد-19"، لأخذ الاحتياطات اللازمة في حالة ما إذا جاء الاختبار إيجابيا.
وما إن نطقت بالكلمة حتى شعرت أن السيدة التي أجابت الهاتف قد أصابها الذعر والتوتر، وتلعثمت كلماتها، ولم تقدم إجابة شافية لأسئلتي سوى نصحي بالاتصال بـ"مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها"، والمفترض أنه يقوم بتقديم الإرشادات اللازمة لمكافحة "كوفيد-19" وغيره من الأوبئة.
تفحصت موقع المركز المذكور لأجد رقم هاتف أو عنوان بريد إلكتروني للتواصل معهم فلم أجده. ازداد القلق والتوتر مع مرور الوقت، وهو ما انعكس سلباً على حالتي الجسدية والمناعية. قاومت -قدر الإمكان- وسلّمت أمري إلى خالقي، وقررت مواجهة الأمر بنفسي. بدأت في اتباع الإجراءات المتداولة من شرب السوائل، وأخذ المسكنات، والخلود للراحة، وفرض عزلة ذاتية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
مرّ عليّ والحال كذلك ثلاثة أيام ما بين تعب وألم وتوتر، ولكن لطف الله وعنايته لم تغب خلالها. بدأت حالتي في التحسن إلا من صداع وألم جسدي خفيف، وبدأت أشعر بأن الأمر ما هو إلا مجرد برد "عادي"، ولكن الأجواء المحيطة مع انتشار وباء كورونا المستجد كانت السبب في زيادة القلق والتوتر ليس من المرض، فهذا قدر الله؛ ولكن تخوفاً من نشره إلى عائلتي وأحبتي دون أن أدري.
لا أسوق هذه الحكاية باعتبارها مسألة شخصية، ولكن للنظر من خلالها إلى حالة الفوضى التي تضرب أمريكا منذ أن بدأ ظهور الفيروس في 19 يناير/كانون الثاني 2020، وانتشاره بشكل سريع وبمعدلات عالية خلال الأسبوعين الماضيين؛ حتى تجاوز عدد حالات الإصابة بالفيروس أكثر من 199 ألف شخص، وزادت حالات الوفاة على 4300. ومن المتوقع أن يتجاوز عدد الحالات المصابة في أمريكا وحدها أكثر من ربع مليون شخص بحلول منتصف أبريل/نيسان الجاري، كما ستتزايد حالات الوفاة.
ولا تقتصر الفوضى على ارتفاع أعداد المصابين بالفيروس، وإنما تشمل طريقة تعاطي الإدارة الأمريكية -بقيادة الرئيس دونالد ترامب- مع الكارثة. ويتحمل ترامب وحده جزءا كبيرا من هذه الفوضى لعدة أسباب:
- أولها؛ تعاطيه غير المسؤول والمستخف بهذا الفيروس واعتباره مجرد برد موسمي كالإنفلونزا، وأنه لن يؤثر كثيراً على المواطنين. وهو ما أدى للاستجابة لمواجهة الفيروس بشكل متباطئ، مما ساهم في انتشاره بشكل سريع دون استعداد كافٍ لمواجهته.
- ثانيها؛ ارتكاب إدارته لخطأ إستراتيجي سيحاسبها عليه التاريخ، وهو قيامها بإلغاء "وحدة مكافحة الأوبئة" التابعة لمجلس الأمن القومي وتسريح أعضائها. وهي الوحدة التي كانت تقوم بعمل أبحاث وتقارير حول مخاطر انتشار الأوبئة، ووضع الخطط اللازمة لمواجهتها قبل أن تستفحل.
- ثالثها؛ قيام ترامب بتخفيض الميزانية الخاصة بمكافحة الأوبئة باعتبارها مسألة غير مهمة. ورابعها؛ عدم اكتراث ترامب بتقارير الاستخبارات الأمريكية التي وصلته أواخر يناير/كانون الثاني وكانت تتوقع انتشار الفيروس على نطاق واسع في العالم وخاصة بأمريكا.
لم يستفق ترامب ويأخذ الموضوع بجدية إلا بعد أن استفحل الأمر في الصين وإيطاليا، حينها بدأ في التحرك لوقف انتشار الفيروس وحتى لا يحاسبه التاريخ على خطئه في حق الأمريكيين. فبدأ إجراءاته مع أوائل مارس/آذار بفرض حظر على الصينيين والأوروبيين إلى أمريكا، وتعليق الرحلات من أمريكا إلى الخارج. وفرض طوقاً من العزلة على بلاده مع إعلان حالة الطوارئ الوطنية.
ولكن "سبق السيف العذل" كما يُقال؛ فقد بدأت حالات الإصابة بالفيروس تتوسع في الانتشار، خاصة في ولايتيْ نيويورك وكاليفورنيا. ومع مرور الأيام؛ تحولت نيويورك إلى ما يشبه منطقة موبوءة مع ارتفاع عدد الحالات بشكل متسارع، حتى تجاوزت الآن 83 ألف حالة إصابة، وأكثر من 1940 حالة وفاة. واضطرت ولايات ميتشغان ولويزيانا وفيرجينيا ونيويورك وكاليفورنيا وإلينوي إلى فرض نوع من حظر التجوال، لوقف انتشار الفيروس بين مواطنيها.
اقتصادياً؛ تعرضت أمريكا لواحدة من أشد الضربات والأزمات الاقتصادية نتيجة لهذا الفيروس، حيث أغلقت آلاف الشركات، وتجاوز عدد العاطلين عن العمل نتيجة لذلك أكثر من ثلاثة ملايين شخص بنسبة تخطت 20%، وهي النسبة الأعلى في تاريخ أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد اضطرت بورصة وول ستريت إلى وقف التعاملات بعد أن تعرضت لواحدة من كبريات خسائرها في أربعة عقود، وهو ما دفع ترامب إلى الضغط على بنك الاحتياطي الفدرالي لتخفيض أسعار الفائدة حتى وصلت إلى مستوى صفر، وهو المستوى الأدنى لها خلال عقود.
إن ترامب -كرجل أعمال- يعتقد أن الطريق إلى نيل ولاية رئاسية ثانية في البيت الأبيض يكمن في تحسين الأداء الاقتصادي لإدارته. وقد كان يراهن على ذلك قبل أن يأتي فيروس "كوفيد-19" ويطيح بكل الإنجازات الاقتصادية التي حققها منذ توليه الرئاسة قبل ثلاثة أعوام ونيف.
لذلك فقد طالب ترامب أعضاءَ الكونغرس بضرورة التحرك وصرف تعويضات للشركات والأفراد، الذين تعرضوا لخسائر كبيرة خلال الأسابيع الماضية نتيجة لانتشار الفيروس. وقد وافق الكونغرس -بعد شد وجذب بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي- على أكبر حزمة تحفيز اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة بمبلغ 2.2 تريليون دولار. وهي خطوة يحاول ترامب تصويرها على أنه نجاح له.
أما أخلاقياً؛ فلا يعبأ ترامب كثيراً بالخسائر البشرية الناجمة عن "كوفيد-19" بقدر ما يهتم بعودة الاقتصاد إلى ما كان عليه قبل بداية الأزمة الحالية. وقد كان يخطط لعودة الحياة إلى طبيعتها مع أعياد الربيع منتصف أبريل/نيسان، ولكنه اضطر -تحت ضغط مستشاريه العلميين وخاصة د. دبروه بيركس ود. أنتوني فوشي- إلى أن يؤجل الأمر حتى نهاية أبريل/نيسان.
كما أن ترامب لم يقدم الدعم الكافي للولايات التي تعاني من ارتفاع معدلات المصابين بالفيروس، خاصة نيويورك التي اشتكي حاكمها أندرو كومو كثيراً من فشل الحكومة الفدرالية في تقديم المساعدة المطلوبة للولاية، خاصة على مستوى المعدات الطبية اللازمة، وكذلك الدعم المادي لتعويض الشركات والأفراد الذين تأثروا سلباً بالفيروس.
ومنذ بدء أزمة "كوفيد-19"؛ لم يتوقف ترامب عن نزقه وحماقته، فبينما يعيش الشعب الأمريكي في حالة رعب وقلق من مخاوف انتشار الفيروس، لم يتوقف ترامب عن استغلال الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية خاصة على حساب خصومه من الديمقراطيين.
فبعد أن فشل في التصرف بسرعة لتقليل حجم الخسائر والإصابات؛ يحاول ترامب الآن قلب الصورة والتفاخر بأنه لولا تصرفه خلال الأسبوعين الأخيرين لوصل عدد الإصابات إلى 2.2 مليون مصاب. كما أنه يفاخر بارتفاع معدل تأييده بين الأمريكيين على خلفية الإجراءات التي اتخذها لتقليل تأثير الفيروس على الشعب.
عندما تستمع لقصص الأمريكيين ومعاناتهم خلال الأسابيع الماضية، وخيبة أملهم في نظامهم الصحي والاقتصادي والسياسي، وذلك بعد انتشار فيروس "كوفيد-19"؛ ستشعر وكأنك تستمع إلى قصص أناس يعيشون في العصور الوسطى، وليس في دولة حديثة يباهي رئيسها دوماً بأنها الأقوى والأفضل والأكفأ في كافة المجالات؛ وهو ما يبدو أقرب للخيال والتمنّي منه للواقع والحقيقة.