علي شهاب - الميادين نت
المؤكّد أن ما نشهده ليس مجرد مرض ينتهي مع العثور على لقاح له، نحن نقف أمام الباب الذي يقودنا إلى عالم مختلف.
يختبر العاملون في قطاع الصحة النفسية عوارض وأمراضاً غير شائعة لدى الحالات التي يواجهونها، نتيجة للحجر والضغوط النفسية الناجمة عن جائحة "كوفيد 19" والركود الاقتصادي العالمي. أمام الباحثين سنوات طويلة لدراسة تداعيات الوباء على الصحة، كما سلوكيات البشر.
يستنزف البشر في الصعاب قدراتهم الذهنية حدّها الأقصى، بغضّ النظر عن اختلاف هذه القدرات. لذا، فهم يميلون أكثر إلى أنشطة "خفيفة" لتحسين مزاجهم اليومي، لكن الأفعال الصغيرة المُحسنة للمزاج قد لا تكون كافية في المرحلة المقبلة، مع دخول الكوكب في مرحلة انتقالية لكل المفاهيم المرتبطة بالحياة البشرية.
ما يمكننا التأكّد منه حالياً وقياسه علمياً هو السلوكيات التي طغت على أذواقنا واهتماماتنا منذ بدء الوباء، وما رافقها من تغيرات على مستوى الحياة اليومية، فحاجات الناس وأولوياتهم اختلفت، وصارت تخضع أكثر لغريزة البقاء.
ويمكن تصنيف الأولويات والحاجات وفق 5 أبعاد:
1. الزمان
2. المكان
3. التواصل
4. التفكير
5. النشاط
إنَّ ضيق هامش مساحة التحرك بسبب الإجراءات الاحترازية من الوباء، سواء كان الفرد في الحجر أو خارجه، أفضى إلى تفاعل مختلف لناحية الحركة والنشاط. وبالتالي، إن الوقت صار أقل "قيمة"، لكون العوامل الطارئة هي التي تتحكَّم بأماكن تواجدنا ومدة تواجدنا فيها.
هذا الواقع يدفع الناس إلى التفاعل بشكل جديد مع ما يحيط بهم، مع بروز الأمراض الناجمة عن قلّة النشاط البدني.
وبالنسبة إلى الأشخاص الذين فقدوا أعمالهم وباتوا في منازلهم أو اضطروا إلى حجر أنفسهم في المنازل، فالوقت صار عدواً خفياً يفرض على سلوكيات الأفراد اللجوء أكثر إلى ما يشتّت الأذهان ويشغلها، ولو لفترات قصيرة خلال اليوم، مع ما لهذا السلوك من تأثير في النمو العقلي والصحّة النفسيّة على المدى البعيد.
بالنسبة إلى مليارات الأشخاص حول العالم، صارت المنازل هي المساحة الأولى للحركة وقضاء الوقت.
يمكن ملاحظة أحد جوانب تأثير الأزمة العالمية الناجمة عن "كوفيد 19"، ومن ثم الركود الاقتصادي، من خلال رصد ما يبحث عنه الناس في شبكة الإنترنت.
شهدت الأشهر الأولى من العام 2020 وحتى شهر آذار/مارس ارتفاعاً بنسبة 100 في المئة في البحث عن كلمة "ملل" عالمياً. كما تشهد عبارات مماثلة ارتفاعاً قياسياً في هذه الفترة، من مثل "الأم الخارقة"، "نشاطات نقوم بها ليلاً"، "العلاج النفسي أونلاين"، وغيرها من العبارات الدالة على الحالة النفسية العامة.
وينسحب تأثير "ملل" الزمان و"ضيق" المكان على التواصل بين البشر، كالاستماع والمشاهدة والتركيز، فنلحظ ارتفاعاً في سرعة الانفعالات والمشاكل العائلية، كنتيجة حتمية لعدم مراقبة معظم الناس لسلوكهم أو قصورهم في إدراك متطلبات التعامل مع الأوضاع الراهنة.
أما في ما يخص التواصل مع الآخر (الغرباء)، فيطغى التواصل عبر الإنترنت، مع ما يحمل من عناصر تشويش على الرسالة بين المرسِل والمُرسل إليه. ويمكن القول إنّ الحيّز الأكبر من تفكير معظم الناس يستنزفهم في البحث عن سبل الحفاظ على صحتهم الجسدية والنفسية، فضلاً عن "مقاومة" التغيير العالمي.
وعلى الرغم من أنَّنا اعتدنا الحديث عن عولمة و"تلاقح" الثقافات في العقود الأخيرة، نتيجة ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، فإنَّ انشغال كل منا بنفسه بدرجة أعلى من المألوف يعزز نمطاً بشرياً "معولماً" من ناحية الاضطرابات النفسية والسلوك، ويخفض "الفرادة" و"التنوّع".
ومن النتائج التي يجب التوقّف عندها، ارتفاع البحث عن الإشباع الجنسي عبر الإنترنت، من خلال زيارة المواقع الإباحية أو العلاقات الافتراضية.
ومع التطوّر المستمرّ في التكنولوجيا، فإنَّ حدود هذا النّوع من الإشباع قد لا تقف عند وهم اللذة "الآنوية"، بل قد تصبح نمطاً معتاداً يؤثر في تناسل البشرية على المدى المتوسط، وخصوصاً أننا سبق أن شاهدنا شيوع الممارسات الجنسية غير الطبيعية (انتشار سوق الدمى الجنسية عالمياً) قبل ظهور "كوفيد 19" بسنوات. وبشكل أوسع، يضع البشر ثقتهم أكثر فأكثر في التكنولوجيا والخدمات الرقمية.
قبل الوباء، كانت تداعيات الاعتماد البشري على التكنولوجيا بادية بوضوح في القدرات العقلية للبشر (كالتشتت الذهني وضعف الذاكرة القصيرة المدى...). ومع تحوّل التكنولوجيا وأدواتها إلى جزء "حيوي" في حياة البشرية في ظلّ الوباء، فإنّ وتيرة التغير في قدرة العقل البشري صارت أسرع، بما قد يشكّل خطورة على مصير البشرية التي يحكي تاريخها انتقالها من حقبة إلى أخرى عند وقوع أحداث بهذه السرعة.
يطول الحديث عن تأثير "كوفيد 19" في سلوكياتنا، وتحتاج معالجة هذا الموضوع إلى أكثر من مقالة، ولكن المؤكّد أن ما نشهده ليس مجرد مرض ينتهي مع العثور على لقاح له؛ نحن نقف أمام الباب الذي يقودنا إلى عالم مختلف.