(لعربي الجديد)
بدا في حكم شبه المؤكّد أن تبعات جائحة كورونا ستمتد عقودا مقبلة في ظل اتساع رقعة الوباء، وإخفاق الحكومات في الحد من تفشيه المتسارع، فقد أكدت منظمة الصحة العالمية، قبل أيام، أن لا نهاية وشيكة تلوح في الأفق لهذه الجائحة التي أربكت السير العادي للحياة. ومع انصرام الأيام والأسابيع، يزداد المشهد قتامة في معظم أنحاء المعمورة، خصوصا في البلدان النامية التي ترزح تحت نير الاستبداد والتخلف والتبعية. وفي وقتٍ كان يُعتقد أن تدابير الحجْر الصحي ستُفضي إلى احتواء الوباء وتقليص رقعة انتشاره، عادت الموجة الثانية أكثر شراسةً وفتكاً لتخلط الأوراق داخل دوائر الصحة والاقتصاد ومختبرات الأدوية، وتُنعش، أكثر، سرديات المؤامرة التي واكبت الجائحة، منذ بداية تفشيها مطلع فبراير/ شباط الماضي.
كشفت هذه الموجة عن التصدّعات الكامنة داخل المجتمعات المعاصرة، على اختلاف تركيباتها الثقافية والاقتصادية، وطرحت محدودية خطاب الاندماج الاجتماعي الذي تتوسّل به الأنظمة والحكومات لتعزيز شرعياتها السياسية، أمام اتساع قاعدة الخاسرين والمتضرّرين من استمرار العمل بالتدابير الاحترازية. وعلى الرغم من أن معظم النظم الصحية لم تنهَر، إلا أنها كشفت عن عجزها الواضح عن مواكبة منظومة الحداثة في تحولاتها المعرفية والتكنولوجية والرقمية، فما الجدوى من أن يمتلك الناس ناصية هذه الحداثة، سيما في مخرجاتها ذات الصلة بأنماط التواصل الجديدة، وألا يمتلكوا نظما صحية قادرةً على استيعاب السيناريوهات الكارثية، والتكيف معها، من دون تعريض النظام العام للخطر؟
صحيح أن هذه النظم الصحية، في البلدان المتقدّمة تحديدا، لا تزال تغالب الوباء وتحاول جاهدةً إبقاء الوضع تحت السيطرة، في انتظار اكتشاف الدواء أو اللقاح الذي يُنهي هذه الأزمة، إلا أن ذلك لم يحُل دون أن تعيد الجائحةُ أسئلة وقضايا كثيرةً إلى واجهة النقاش العمومي، من قبيل التحالفاتِ العميقة المؤطرة للسلطة التي تتخطّى، على ما يبدو، ثنائية الاقتصاد والسياسة لتتعزّز بفاعلين جددٍ قادمين من دوائر المختبرات وشركات الأدوية، وانتعاشِ الخطاب الشعبوي المناهض للانفتاح والعولمة. وفي الوسع القول إن المظاهرة التي شهدتها العاصمة الألمانية، نهاية الأسبوع الفائت، تمثل نموذجا للرفض المتنامي لهذه التحالفات التي تتغذّى على الجائحة، وتستثمر في استمرار تبعاتها المختلفة؛ ذلك أن رفضَ القيود التي تفرضها مكافحة الجائحة، مثل ارتداء الكمامات، والتقيد بقواعدِ التباعد الاجتماعي، والامتثال للبروتوكولات الصحية، ذلك كله يعكس، إلى حد ما، إخفاق الفاعلين المعنيين (منظمة الصحة العالمية، الحكومات، المختبرات، الإعلام، ...) في صياغة سرديةٍ متوازنةٍ بشأن ما يحدث وسيحدث خلال الأشهر المقبلة. ومن هنا، تبدو مظاهرة برلين وكأنها تنوب عن طيف واسع من الرأي العام الغربي في التمسّك بأسلوب حياة معين، ورفضِ التخلي عن المكاسب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي راكمتها مجتمعات الطبقة الوسطى المؤمنة بحيادية العلم ونزاهته.
يبدو الوضع أكثر سوءا في البلدان التي تحكمها أنظمة استبدادية أو سلطوية؛ ففضلا عن العجز المتنامي في الحدّ من الارتفاع المهول في أعداد المصابين، تجد هذه البلدان نفسَها أمام اختبار اجتماعي وسياسي صعب، فالاستمرار في تخفيف تدابير الحجْر ستكون له تكاليف يصعب تحمّلها في ظل تردّي خدمات الصحة والرعاية الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، فإن العودة إلى الأخذ بهذه التدابير، مع نهاية فصل الصيف، سيُفضي إلى إفلاس اقتصادي واجتماعي ستكون له حتما تبعاته السياسية، الأمر الذي تسعى إلى تجنبه هذه الأنظمة بأي ثمن.
منحت الموجة الثانية من الوباء الذريعةَ للسلطة وشبكات المصالح والنفوذ والثروة للتحكّم في مصائر شعوب وأمم بحالها، من خلال قروض وديون يتم اللجوء إليها، الآن، لمواجهة تداعيات تفشّي الوباء، لكن دورها، في تشكيل خرائط القوة في عالم ما بعد كورونـا، سيكون حاسما، حيث ستجد هذه الشعوب والأمم نفسها عاجزةً عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه المؤسسات المانحة، ما سيرهن مستقبل أجيال بكاملها، ما قد يُفضي إلى اضطراباتٍ أهليةٍ واجتماعية واسعة.
تضعنا الموجة الثانية أمام تحدّيات كبرى، تتطلب مراجعاتٍ لأشكال التدبير السياسي والاجتماعي والإعلامي لما يستجد من أطوار الجائحة. وكورونـا لن تختلف عن الجوائح التي اجتاحت العالم، وساهمت في تشكيل المجتمعات وتغيير مساراتها التاريخية.