حسين حمود - الميادين نت
لكن ما لا يعلمه الكثيرون أنَّ مفهوم التعلّم عن بعد ليس جديداً أبداً، بل هو في الواقع يكبرنا سناً، وتعود بداياته إلى المملكة المتحدة في أواسط القرن التاسع عشر.
ما زال الارتباك يطغى على الصورة في العديد من المجتمعات التي حلَّ ضيفاً فيروس كورونا ثقيلاً عليها. الإنسان الحديث في العام 2020 هو نفسه الإنسان الذي اجتاح الفضاء، وظن أنَّه وصل إلى أعتاب الألوهية والخلود، ولكنه اليوم يتخبَّط في سبل وساحات المواجهة التي فرضتها عليه الجائحة.
لقد اقتحم هذا الفيروس مختلف مجالات حياتنا، فأدركنا متأخرين بعض الشيء أنَّ مسؤولية المواجهة لا تقع على عاتق الكادر الطبي فقط، بل على كل فرد من موقعه، ضمن ما يفترض أن يكون خطة ومنهجية متفقاً عليها، هذا إن اتفقنا على المواجهة أصلاً.
وانطلاقاً من ذلك، يعتبر القطاع التعليميّ أحد تلك القطاعات التي كانت معنيّة مباشرة باتخاذ التدابير وخلق الحلول من أجل التكيف مع الوضع الجديد، آخذاً بالاعتبار مبدأين أساسيين؛ الأول هو الحرص على سلامة الطلاب والعاملين، والآخر هو الحفاظ على عنصر "الزخم" التعلّمي الذي يصعب تعويضه متى توقف التعليم لفترة من الزمن (كعام كامل مثلاً). من هنا، أتى اقتراح تطبيق التعلم عن بعد أو التعلم الإلكتروني، والذي سأحاول وضعه تحت المجهر في حديثي هذا، لكوني خضت هذه التجربة حديثاً مع من خاضها.
هذه التجربة اليافعة والطموحة لا بأس بأن تكون محلّ نقد، شرط أن يكون هذا النقد موضوعياً وجدياً. أذكر هنا الفترة الأولى لطرح فكرة التعلم عن بعد، بالتزامن مع إقفال المؤسسات التعليمية أبوابها. حينئذ، غمرت منصات التواصل الاجتماعي موجة من التهكّم، وأنا مدرك جيداً أننا شعب يتميَّز بحس الدعابة وروح النكتة، لكننا أصبحنا شعباً يمتهن تحويل كل موضوع إلى مادة للسخرية، وهذا حديثٌ ليومٍ آخر.
المهم أنَّ الذي حصل كان سبباً كافياً حتى يثبط عزيمة العديد من التلاميذ والأساتذة عند انطلاق العمل بالمشروع. وكان جلُّ الناس يصفون التعلّم عن بعد بأنه طرح جديد وغير واقعيّ، ولن يكتب له النجاح، أو أنه بدعة تجارية اختلقتها المؤسسات التعليمية لضمان تحصيل أقساطها.
لكن ما لا يعلمه الكثيرون، للأسف، أنَّ مفهوم التعلّم عن بعد ليس جديداً أبداً، بل هو في الواقع يكبرنا سناً، وتعود بداياته إلى المملكة المتحدة في أواسط القرن التاسع عشر، وسرعان ما امتدَّ إلى ألمانيا والولايات المتحدة، حيث كان يعرف حينها بالدراسة عبر المراسلة، لأن الدروس والكتب كانت ترسل بين الطالب والأستاذ عبر البريد.
وكانت الغاية الرئيسية منه إنتاج طبقة عاملة متعلمة قادرة على مواكبة التطور الصناعي والمدني المتسارع في ذلك الوقت 1. وفي العام 1981، أي قبل 39 سنة، أقيم أول صفّ إلكتروني عبر الإنترنت في مؤسسة العلوم السلوكية الغربية في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة 2، فما عذرنا نحن أبناء الألفية الجديدة والجيل الرابع من الاتصالات؟
إذاً، الفكرة ليست جديدة. وقبل أن نقوم بتقييم واقعيتها، علينا أن ندرك أنها أمرٌ واقع منذ وقت طويل. وهنا، يجدر الذكر أنَّ الأسير المحرر والشهيد الأيقونة سمير القنطار حاز درجة بكالوريوس في الأدبيات والعلوم الاجتماعية من داخل سجنه في الأراضي المحتلة في العام 1998 عبر الدراسة بالمراسلة.
لكن هناك نقطة أخرى على الهامش من الجيِّد أخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن التجربة اللبنانية بالتحديد، ففي هذا البلد، لطالما عانى القطاع التعليمي من انقطاع الدروس بسبب الاضطرابات الأمنية والعسكرية. ولذلك، قد يشكّل التعلم عن بعد في المستقبل بديلاً من الإغلاق القسري.
في المقابل، هذا النّوع من التعلّم لا يخلو من العيوب طبعاً، فهو يسلب من عملية التعلم روحيَّتها القائمة على التفاعل الجسماني والمكاني المباشر بين المتعلم والمعلم ضمن بيئة صفّية سليمة ومضبوطة، فتتحوَّل هذه العمليَّة من قيمة إنسانية ذات طابع تربوي وتثقيفي إلى أخرى ذات طابع تجاري بحت، ويتحوَّل التلميذ إلى زبون مجهول يقبع خلف شاشة، ناهيك بالتعقيدات اللوجستية والتدريبية التي تحتاج إلى جهود إضافية لتذليلها، وخصوصاً في المراحل العمرية الصغرى.
كما أن من غير المنطقي القول إن الأهداف التعلّمية المحددة في مناهجنا العادية يمكن تحقيقها بالفعالية نفسها عند الانتقال إلى التعلّم عن بعد. لذلك، يجب العمل على تعديل بعض المناهج وإعادة هيكلتها لتتناسب مع الوضع الراهن.
وبالحكم على ما لمسته شخصياً في التجربة اللبنانية مع التعلّم عن بعد، فإنَّ تطبيقه الآن كشف عيوباً جسيمة في بنيتنا التحتية ومهاراتنا التقنية بشكل عام، والعائق الأساسي في البنية التحتية هو خدمة الإنترنت البطيئة جداً والدائمة الانقطاع في لبنان، من دون الحديث عن انقطاع التيار الكهربائي، وهو ما دفع بعض المؤسّسات، كجامعة المعارف في بيروت، إلى تأمين خدمة الإنترنت لطلابها على نفقتها الخاصَّة.
الوجه الآخر لهذه العيوب كان له طابع تقني على المستوى الفردي، فقد تبيّن أننا، كطلاب وأساتذة على حدٍ سواء، لسنا ملمّين بالعديد من بديهيات التكنولوجيا الحديثة، كما كنا نتبجَّح. ورغم توفر العديد من المنصات العالمية المجانية، والمصمّمة بالتحديد من أجل تسهيل عملية التعلم عن بعد، فإنَّ الكثيرين من الطلاب والأساتذة يحتاجون إلى دورات تدريبية لمعرفة كيفية استعمالها.
وبناءً على كل ما سبق، قد تصحّ مقولة أنَّ العمل بالتعلم عن بعد يدخل ضمن "تشريع الضرورة" في الحالات الخاصة (كحالتنا الآن)، على أن لا يأخذ مكان التعلم المتعارف في الأحوال الطبيعية.
في الختام، من المفيد أن نعي أنَّ مسألة التعلم عن بعد ليست مجرد ضرورة أكاديمية، رغم صوابية ذلك، لكنَّها تشكل قاعدة مبدئية من المفترض أن ترافقنا خلال الأزمات وتحكم طريقة تعاملنا معها.
وعلى الرغم من تيقّني من وجود أضرار جانبية على الصعيد الأكاديمي، ناجمة عن التعلم عن بعد، لكنَّ هذه الخسائر من الممكن تداركها بسهولة في المستقبل. أما الخسارة التي لا يمكن تعويضها، فهي خسارة الوقت، والاستسلام لهذا الفيروس، لا بل والسماح له بأن يضع عقولنا، لا أجسامنا، تحت الحجر.