نقلاً عن الجزيرة نت - أسيل الجندي
في أزقة بلدة القدس العتيقة يحتار الزائر عادة أين يتجول بنظره لاكتظاظ ما يمكن أن يراه في هذه البقعة الصغيرة من حيث المساحة، الكبيرة والعميقة من حيث التاريخ والعراقة والتخصصات التجارية.
لكن اليوم وبعد مرور ٦ أشهر على وصول فيروس كورونا للعاصمة المحتلة، لم يعد المشهد كما كان عليه قبل وصول الجائحة.
اختفى صوت فتية العربات الناقلة للبضائع والتي كانت تسبب ازدحاما وتعيق حركة المارة، ولم تعد تسمع صوت أي منهم صارخا "احترس احترس"، والمخبز الذي كانت رائحة خبزه وكعكه المقدسي تستقبل الزوار بعبق استثنائي بات صاحبه يقف حائرا بين إغلاق مخبزه، أو الاستعداد لخبز وجبة أخرى، قد لا يبيع منها شيئا.
صوته وصوت باعة الخضروات والفواكه الذين يتصبب منهم العرق عادة وهم ينادون على الزبائن لإغرائهم بسعر كيلو المانجا أو البطيخ أو التين خفت، وخفتت لهفتهم، وجلسوا على كراسيهم يتهامسون في مصير الأسواق والمحال التي لم تغلق أبوابها بعد.
كل هذا يصادف الزائر بمجرد دخول باب العامود، وبتفرعه إلى أحد الأسواق يزداد المشهد قتامة، ففي سوقي خان الزيت والواد، الأكثر انتعاشا وحيوية مقارنة مع بقية أسواق العتيقة، أغلقت عدد من المحال أبوابها، ولم يعد بعض التجار قادرين على تغطية نفقاتها التشغيلية في ظل شح حركة المارة وانعدام وصول السياح.
أبواب أوصدت للأبد
التاجر أبو يعقوب الذي يقع حانوته في منتصف سوق خان الزيت، ويختص ببيع الجلديات من أحذية وحقائب، يقف على الباب تارة لمراقبة حركة السوق، ويحدق بقفل باب الحانوت المغلق المقابل له مباشرة، ثم يدخل ويحاول إشغال نفسه بترتيب صناديق الأحذية المكدسة، دون أن يمر طيلة فترة وجودنا في حانوته أي زبون.
يقول أبو يعقوب للجزيرة نت إن 80% هي نسبة الضرر التي لحقت به منذ وصول جائحة كورونا للبلاد، خاصة أن الجلديات قد تجذب السياح، الذين لا يصلون الآن، ولا تجذب السكان المحليين لأن الصناعة الصينية حلّت مكان هذه الصناعة الوطنية.
أكد أبو يعقوب أن محله لم يعد قادرا الآن على إعالة أسرته، وعند سؤاله عن إمكانية أن يجلس يوم عمل كاملا دون أن يدخل زبون واحد إلى الحانوت ارتفع صوته قائلا "أيام متوالية تمر دون أن يدخل أحد إلى حانوتي، لكنني مصمم على فتحه بشكل يومي، ولا أتحمل رؤية الأقفال مثبتة عليه بشكل دائم".
ودّعنا التاجر الغاضب على الوضع الذي آل إليه سوق خان الزيت، وهو يحث من حوله على الالتزام بارتداء الكمامة، خوفا من مخالفات الشرطة الإسرائيلية التعسفية، التي دفعت بكثير من المتسوقين لهجرة أسواق العتيقة نهائيا.
بالانعطاف يسارا إلى شارع الواد عبر طريق الآلام، يبدو المشهد أكثر إيلاما، فكافة المحال المختصة ببيع التحف السياحية مغلقة، وخلت من الوجوه المألوفة من التجار، ومن ترانيم آلاف السياح المسيحيين الذين يسيرون في هذا الطريق يوميا، حاملين صليبا خشبيا كبيرا ويمرون بكافة مراحل آلام السيد المسيح حسب معتقداتهم.
شارع الواد، الشريان الرئيسي الموصل للمسجد الأقصى المبارك، خلا من المصلين، وخلت محاله من الزبائن، وأغلقت أبواب كثير منها، في حين اضطر أصحاب بعضها لتأجير الحوانيت بمبالغ زهيدة لتبقى أبوابها مفتوحة فقط.
في سوق البازار، الذي يعتمد على السياح بشكل كامل، يقف في نهاية زقاقه المؤدي إلى شارع الكاردو، الذي يسيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي، الخيّاط الثمانيني أبو تيسير الكركي الذي يعمل في تصليح الملابس منذ 57 عاما.
يجول بنظره بين المحلات المغلقة حوله، وينظر إلى أوراق ثبتتها الأذرع الإسرائيلية المختلفة، بين شقوق الأبواب تنذر بتراكم أكبر للضرائب والفواتير، ثم يعود ليجلس خلف آلة خياطته الأثرية.
فوق حانوته تشير اللافتة إلى "سوق الباشورة" التاريخي، الذي اندثر ولطالما اعتمد أبو تيسير على رواده كمصدر رزق له.
من حارة السعدية في البلدة القديمة يتوجه أبو تيسير يوميا إلى مخيطته الضيقة جدا، ليمضي ساعات دون عمل ثم يتوجه إلى المسجد الأقصى المبارك لأداء صلاة الظهر، ويعود أدراجه إلى منزله، وما اختلف في حياته الآن هو ارتداء الكمامة فقط التي أثقلت عليه كمسن، متمنيا أن يرفع الله الغمّة قريبا وتعود المحال المغلقة في البلدة القديمة لتفتح أبوابها.
انهيار اقتصادي
وزير الاقتصاد الوطني الأسبق المقدسي مازن سنقرط يقول إن الاقتصاد المقدسي يعتمد بالأساس على السياحة التي تشكل 40% من الناتج المحلي لاقتصاد القدس.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن "البلدة القديمة التي يسكنها نحو 43 ألف نسمة تحتوي على 1400 محل تجاري، 45% منهم يختصون بالتحف الشرقية، وبالتالي يعتمدون بشكل مباشر على السياحة".
وفي ظل غياب الرواد الطبيعيين، وهم السياح الأجانب، عن البلدة القديمة، وإغلاق الأقصى لفترة طويلة بسبب جائحة كورونا، تأثرت الحالة الاقتصادية في القدس.
ويعتقد سنقرط أن "البعض يرى أنه من الأفضل أن يغلق المحل للخروج بأقل الخسائر، وهذا بلا شك سيسبب خسارة تراكمية فادحة ومؤلمة على المدى البعيد، لأن شريان الحياة الاقتصادية في البلدة القديمة أساسي ومهم لحماية الناس فيها، وبالتالي حماية الأماكن المقدسة، لأن أهل البلدة القديمة سواء الساكنون فيها أو العاملون من خلال المتاجر يعتبرون الحصن الأساسي المتين لحماية المقدسات، وحماية إرثنا التاريخي والديني والسياسي والحضاري والوطني والثقافي".
ويتطرق الوزير الأسبق أيضا إلى الخطط الكثيرة التي وضعت لإعادة إنعاش اقتصاد البلدة القديمة، لكنها اصطدمت جميعها في عدم إمكانية الدعم المالي، الذي من دونه لا يمكن لكثير من المحال أن تعود لفتح أبوابها.
وعن التفاصيل، يقول إن الإنعاش الاقتصادي المطلوب هو دعم مالي مباشر، وتخفيض المصاريف للحد الأدنى، وبرنامج فلسطيني داخلي، بمعنى أن يكون هناك تدخلات من أهالي الـ 48 لتعزيز القوة الشرائية، ومطلوب من المقدسيين أنفسهم عدم التوجه للمتاجر الإسرائيلية على حساب محلات البلدة القديمة.
يصف سنقرط البلدة القديمة بأنها أقدم سوق تجاري عرفه التاريخ، فهي بمساحة أقل من كيلومتر مربع، محاطة بسور تاريخي عظيم، وفيها ٧ أبواب لدخول وخروج الناس، وفيها 1400 محل تجاري، ويسكنها 43 ألف نسمة، ولا يوجد بالعالم كهذه المواصفات الاجتماعية الجغرافية الاقتصادية، ولا بد من النهوض بها.
وعن المحال المغلقة يقول إن "عددها قبل الجائحة كان 380 محلا، والآن تضاعف هذا العدد، لأن محال التحف الشرقية مغلقة بالكامل، فيزيد العدد اليوم عن 700 محل مغلق، وهي تشكل ما نسبته 50% من مجمل عدد المحال بالبلدة القديمة.