فاطمة سلامة
في خطابه الأخير، وصف الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله المواجهة التي نخوضها ضد فيروس "كورونا" بالمعركة. الكلمة الأخيرة وردت 69 مرة على لسان سماحته للدلالة على خطورة المرحلة التي نعيشها اليوم. تلك المعركة لا شك أنّ جنودها كثر على رأسهم العاملون في الحقل الطبي والتمريضي سيما في مستشفى رفيق الحريري الحكومي الذين ـ وكما قال سماحته ـ يتواجدون بالخط الأمامي في المواجهة. أولئك يُقدّمون خدمة وطنية جليلة لمجتمع بدأ يفتك به فيروس خبيث. خدمة يحملون بموجبها سلامتهم على أكفّهم كما يقال، فهم على تماس مباشر مع مرضى فيروس مستجد قد ينتقل على حين غفلة أو هفوة بسيطة ما قد يُعرّضهم ويُعرّض من حولهم للخطر. الأمر الذي جعل هؤلاء بمثابة العاملين في حقل ألغام، العدو بالنسبة اليهم غير واضح، ما بدّل حياتهم الشخصية رأساً على عقب. تلك الحياة تغيّر الكثير من جوانبها ولم تعد مطلقاً كما كانت. فالظروف التي فرضت تدابير أشد قساوة أفرزت الكثير من المواقف المؤلمة والمؤثرة.
لبشار حجازي ـ وهو مشرف تمريض سريري في المستشفى ـ مع تلك المواجهة مواقف عدة، تماماً كسائر زملائه العاملين هناك. يروي حجازي لموقع "العهد" الإخباري بعضاً من تلك المواقف التي يواجهها في معركة "الكورونا". بدايةً، لا يقدر المتحدّث على وصف الشعور الذي ينتابه لناحية المهمة الوطنية التي يؤديها. فنحن كما قال سماحة السيد في معركة وعلينا أن ننتصر. لكنّ تلك المعركة فرضت ظروفاً قاسية علينا تحملها بالايمان والصبر.
يقف بشار على مسافة من ولده البالغ من العمر خمس سنوات. على قدر حبّه له، يكون الحرص، وهو الذي يخاف عليه من أذى عادي، فكيف بفيروس خبيث؟!.
في الكثير من الأحيان يحاول تضييع الوقت وهو في طريق العودة الى المنزل علّ ابنته وابنه يغفوان، فيتجنّب ذلك الموقف الذي يهنأ به أي أب عائد من عمله لمجرد أن يفتح باب المنزل، عندما يركض الأطفال الى حضن أبيهم. طريق العودة الى المنزل صعبة ـ وفق حجازي ـ وتتطلّب تجهيزات واستعدادات وأساليب وقاية مختلفة. في المواجهة مع كورونا ـ وأنا الذي على تماس مباشر مع المرضى ـ فإنّ عدم أخذ الاحتياطات اللازمة كما يجب يعني أنّي آخذ بأولادي الى التهلكة. الأمر الذي يجعلني أتهرّب منهم في الكثير من الأحيان مع شدّة العاطفة التي أحملها في قلبي. فليس بالأمر السهل أن يقف الأولاد أمام أبيهم بعد غيابه عنهم لمدة 12 ساعة. ويوضح حجازي أنه يحرص على الدوام على إبقاء مسافة بينه وبين أطفاله. هذا الأمر ليس سهلاً بل يتطلّب جهاداً من قبل النفس. جهاداً أحاول بموجبه التهرب قدر الامكان من أولادي كي لا أحدث لهم أي أذى لا سمح الله.
في إحدى المرات، سألني طفلي، يقول حجازي، لماذا لا تقبّلني؟ وهو الذي اعتاد كأي طفل على تلك العاطفة. لماذا تتأخر علينا في العمل؟. لم أستطع إخفاء السبب، خاطبته على قدر عمره الصغير، فقلت له إنني أذهب لمحاربة شرير صغير يسمى "كورونا"، حتى أصبحت كلما أدخل الى المنزل يسألني: هل قتلت الشرير؟. لا ينكر المتحدّث أنّه يحاول كثيراً أن يعوّض ولديه ولو بطرق أخرى انصافاً لهما. من لا يعيش هذه اللحظات لا يعرف مدى قساوتها، يقول حجازي الذي يلفت الى أنّه لم ير والدته منذ حوالى الشهر خوفاً عليها أيضاً.
وفي معرض حديثه، يتطرّق حجازي الى الظروف التي يعمل بها ورفاقه، فيوضح أننا ملزمون باتخاذ تدابير وقائية قصوى لدى خروجنا من المستشفى، وملزمون خلال عملنا بارتداء الثوب الوقائي الأبيض. ذلك الثوب يشكّل عبئاً كبيراً وإزعاجاً للممرض والعامل في المجال الطبي لكننا ملزمون به لأجلنا ولأجل المرضى. نحن مؤمنون أنّ هناك جهوداً يجب أن تبذل في سبيل السهر على راحة المرضى، المهمة اليوم هي مهمة وطنية. يُشبّه المتحدّث مهنة التمريض بمهمة العسكري مع فارق أنه يرتدي ثياباً بيضاء. وفق قناعاته فإن الممرّض هو الجندي المجهول الذي يبقى في حالة تأهب مستمرة ليلا ونهارا للسهر على راحة المريض. هذا واجبه وتكليفه وكما قال سماحة السيد نصر الله هم جنود وضباط الصف الاول بالخط الامامي. برأي حجازي فإنّ مهمتنا بمواجهة "كورونا" أصعب من مهمة الجندي الذي يقاتل خلف المتراس. نحن نعمل اليوم وكأننا خبراء في المتفجرات، الخطأ الأول هو الخطأ الأخير. العدو مجهول، ولا نعلم الجهة التي قد نلتقط الفيروس منها، رغم كافة الاحتياطات التي نقوم بها.
ويشير حجازي الى الروحية العالية التي يتعامل بها العاملون في قسم "الكورونا" مع المرضى. أولئك بالنسبة لنا على حق دوماً حتى ولو أبدوا أي انزعاج، فنحن نتعامل مع مرضى، ولا ننسى أن فكرة الاصابة بالفيروس قد تولد حالة نفسية صعبة، وكذلك فكرة العزل بغض النظر عن أهميتها هي مزعجة، خصوصاً أن المرضى لا يميّزون بين ممرض وآخر، وطبيب وآخر نسبة الى اللباس الوقائي الذي يجعل التعرف على الوجوه مسألة صعبة جداً. كما يشير حجازي الى أن المستشفى تحرص على الاهتمام بالجانب النفسي فتحاول قدر الامكان التواصل معهم عبر قسم التثقيف الصحي لتعزيز حالتهم النفسية.
ويتحدّث حجازي عن جهوزية مستشفى رفيق الحريري الحكومي التامة لمواجهة الفيروس، لافتا الى أنه ومنذ التبلغ بأول إصابة "كورونا" في لبنان، تحوّل المستشفى الحكومي الى خلية نحل. خلال 48 ساعة تم تجهيز ما يشبه المستشفى المنفصل للكورونا داخل المستشفى. لذلك المستشفى ممرات مختلفة وطواقم طبية خاصة. ولحسن الحظ يقول حجازي إن المستشفى كان شبه مجهز اذ كان لدينا جهوزية تامة للفرق لناحية كيفية التعامل مع الأوبئة، خصوصاً أن قسم العزل جهز سابقاً خلال فترة الايبولا. وهنا يوضح حجازي أن الفريق الذي يعمل داخل مستشفى "الكورونا" يتراوح عدده بين الـ 80 و85 شخصا. أولئك يعملون ليل نهار للانتصار على هذا المرض. البعض منهم لا يعود الى منزله مطلقاً، لكنّ الحديث معهم يكشف عن معنويات مرتفعة للواجب الوطني الذي يؤدونه. هم متحمسون للانتصار على المرض وهزيمته، تماماً كما يتحمّس المقاوم في المعركة للانتصار. ذلك الانتصار يشكل تحديا بالنسبة لهم خصوصا أننا نعمل ضمن مستشفى حكومي يعتبره البعض دون المستوى مع العلم أن الوقائع برهنت أنه الوحيد الذي يمتلك التجهيزات إن كان لناحية الكادر التمريضي المتقدم جدا بعلمه في لبنان، أو الجهوزية الموجودة. وهنا يستغل حجازي الفرصة ليضيء على المعاناة التي يواجهها بعض العاملين في قسم "الكورونا" في الخارج الذي لا يرحمهم أحياناً، ويتعامل معهم كأنهم مصابون. فإحدى الممرضات على سبيل المثال طلب منها سائق "التاكسي" النزول في منتصف الطريق المؤدي الى المستشفى حال معرفته أنها تعمل هناك في قسم الكورونا. وهنا يطلب حجازي من المجتمع الذي يقدّر المهمة الجليلة التي يؤديها هؤلاء الرأفة بهم قليلاً.
وفي ختام حديثه لموقعنا، يدعو حجازي اللبنانيين للتسلح بالوعي وعدم الانجرار وراء الأكاذيب والشائعات، وذلك عبر اتباع النشرة الرسمية الصادرة من وزارة الصحة فقط والالتزام بالتدابير والارشادات التي توجهها. برأيه، صحيح أننا نواجه فيروسا صعبا جدا ومعقدا، لكن الوقاية منه أيضاً بسيطة جدا وسهلة. الالتزام بالارشادات يمكننا من الانتصار على الوباء المستجد وقطع سلسلة انتقاله، وما النصر الا صبر ساعة، يختم حجازي.
قليط: لأجل أمي أعيش بمفردي
مشرفة التمريض في مستشفى رفيق الحريري الحكومي لينا قليط تروي بدورها تجربتها، فتوضح أنّ ظروف مواجهة "الكورونا" دفعتها الى العيش بمفردها بعيداً عن عائلتها. فضّلت قليط تحمل تبعات العيش وحيدة مع ما يلقيه هذا الأمر من مسؤوليات على أن تلحق الأذى بأفراد أسرتها خصوصا أمها، فهي سيدة متقدّمة في العمر وتعاني من أمراض مزمنة. هنا يصبح الاحتياط واجباً والتضحية مطلوبة تقول قليط التي توضح أنّ الفرد منا ومهما اتخذ من اجراءات لا يمكنه التسليم لوباء مستجد وخبيث.
في معركة "الكورونا".. جنود يحملون سلامتهم على أكفّهم
لينا قليط مع والدتها
ولا تنكر قليط أنّ تجربة العيش بشكل فردي صعبة جدا، فالانسان منا يشعر بالبعد والوحدة رغم أنني على تواصل يومي عبر تقنية "الفيديو كول" مع أهلي ولكن لا شيء يعوّض اللقاء المباشر. لكن قليط تعود لتشدد على أنني أفضل التضحية على أن يصيب أهلي وأحبابي أي مكروه. بنظرها، فإنّ التضحية تتجسد في أجمل صورها عندما تكون في سبيل الوطن، فنحن في النهاية نقدم خدمة انسانية وطنية.
وتلفت قليط الى أنّ الزملاء العاملين في الحقل الطبي لمواجهة "الكورونا" هم جنود يخوضون معركة تختلف عن المعركة العسكرية . في الأخيرة العدو يبدو واضحاً ومعروفاً، أما اليوم فنحن نواجه مرضا خبيثا لا أمان له، معروف بسرعة انتقاله الجنونية، خصوصاً أنه لم يتم العثور على علاج له حتى الساعة.
وتوضح قليط أن الفريق الطبي والتمريضي في مستشفى رفيق الحريري الحكومي يتابع مع المرضى لحظة بلحظة ويسهر على راحتهم، هذه مهمتنا. تلك المهمة تستدعي منا أعلى درجات الحذر والاستنفار واتباع كافة أساليب الوقاية لمنع انتقال العدوى مع الحرص الشديد على سلامة المرضى وتنفيذ الاجراءات المطلوبة بحذافيرها.
وتتمنى قليط أن تمر أزمة "كورونا" كسحابة صيف عابرة. برأيها، سننتصر على هذه الأزمة، متمنية الشفاء لكل المرضى. وفي معرض حديثها عن التضحيات التي يقدمها الفريق الطبي والتمريضي العامل في المستشفى، تتمنى أن يصار الى تقدير هؤلاء الجنود ولو بشكل معنوي، لأنهم أبطال يواجهون مرضاً خبيثاً. كما تضيء على الجهود الكبيرة التي يبذلونها من أعماق قلوبهم والتي لم يعرفوا معها معنى الراحة، موجهة الشكر في الختام الى المدير العام للمستشفى د. فراس الأبيض ورئيسة مصلحة التمريض في المستشفى وحيدة غلاييني.