نقلاً عن صحيفة الأخبار - مرح ماشي
في ظلّ تفشّي وباء «كورونا»، وصعوبة الأوضاع الاقتصادية، تتنامى «السياحة الشعبية» في سوريا بشكل أكثر انضباطاً وتنظيماً، مع لجوء البسطاء إلى منشآت تابعة لوزارة السياحة، تناسب ما بقي في جيوبهم ومدّخراتهم. واللافت أن هذه المنشآت، على بساطتها، باتت تشكّل رفداً إضافياً لخزينة الدولة
قد تكون السياحة خارج سلّم الأولويات السورية، في ظلّ تداعيات الحرب والحصار، وآثار تفشّي وباء كورونا، الذي لا تدخل وزارة السياحة في إطار اللجنة المشكَّلة للتصدّي له، كونها وزارة كمالية تزدهر في أوقات السلم والرخاء. مع ذلك، بدأت تروج أخيراً «السياحة الشعبية»، المعروفة في شتّى أنحاء العالم بما تُسبّبه من فوضى وما تنطوي عليه من أخطار على التنوّع الحيوي والبيئي، إلّا أنها في سوريا اتّخذت شكلاً جديداً، يبدو في طريقه إلى التصاعد.
بعيداً من أثرياء الحرب
يمضي زياد مع عائلته إلى منطقة دريكيش في ريف طرطوس، هارباً من حرّ العاصمة وأخبار الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي. قرّر المهندس الثلاثيني وزوجته أخذ إجازة بعيداً من كلّ الصعوبات المحيطة بهما، والتي أجبرتهما، بفعل ارتفاع الأسعار وتدنّي مستوى المعيشة، على فتح صندوقة مدّخرات ابنهما ذي العامين، والتي كانا وضعا فيها ما استطاعا من مبالغ زهيدة. 18 ألف ليرة هي كلفة غرفة مخصّصة لثلاثة أشخاص في فندق دريكيش التابع لوزارة السياحة، مع خدمات مقبولة. يعلّق الرجل على الأمر بقوله: «تعبنا من كلّ شيء. بدأتُ وزوجتي فقدان توازننا جرّاء القلق والضغط النفسي. شعرنا أننا بحاجة إلى إعادة شحن طاقة قبل أن نفقد وعينا. ما يجري يُفقدنا التركيز والقدرة على التفكير». لا يخشى زياد وباء كورونا، بقدر ما يخشى نفاد المال في جعبته، إذ إن المبلغ الذي بحوزته يكفيه لإجازة لا تتجاوز ثلاثة أيام. يقول: «نأخذ احتياطاتنا الصحّية وفق الحدّ الأدنى لا أكثر. لم نسمح للمخاوف بالسيطرة علينا، بل غامرنا وقرّرنا تغيير الجو بأيّ ثمن».
مع استمرار العديد من إجراءات الحجر الصحّي العالمي، وتوقّف حركة الطيران طيلة الأشهر الماضية، قرّرت ديانا التي اعتادت أن تمضي عطلتها الصيفية في أوروبا أن تستعيض عن ذلك باستكشاف موطنها الأصلي، والتعرّف إلى المناطق الطبيعية المنسيّة فيه. تلفت المدرّسة العشرينية إلى أن «البديل الوطني أقلّ كلفة، وإن بخدمات ذات مستوى أقلّ أيضاً»، مشيرةً إلى أن «فنادق الخمس نجوم لا تعني لها شيئاً، وسط تطبّعها بأجواء تناسب أثرياء الحرب، بما في ذلك حفلاتها وشواطئها». وتضيف: «نسمع عن أسعار خرافية للإقامة في الفنادق الكبرى، مقارنة بتكاليف الخدمات السياحية في بلدان تفوق بلادنا في صناعة السياحة. وهذا سائد منذ ما قبل الحرب». وتتابع أن ثمة «حفلات في المنتجعات الخاصة بأسعار غير منطقية، وبما لا يراعي حتى ظروف التباعد الاجتماعي حالياً»، مستدركةً بأن «كلّ هذا لا يعنينا. نظّمنا أنفسنا للذهاب برحلات لا تكلّف الشخص الواحد أكثر من 2500 ليرة يومياً، بخدمات مقبولة». كلام ديانا يدعمه اعتراض أبناء الطبقة الاجتماعية ما بين المتوسطة والثرية على ارتفاع سعر الخدمة السياحية المتواضعة في الفنادق الكبرى العامة والخاصة.
منشآت رابحة
تبرز، أخيراً، تجربة جديدة في صناعة السياحة السورية، حيث يتمّ التأسيس لمنشآت تستهدف الطبقات المتوسّطة والفقيرة، وتوفّر فرص عمل لليد العاملة في مناطق تركّزها، وهو ما بدأ يترسّخ كاستراتيجية تتبنّاها الحكومة. وفي حين افترض البعض أن منشآت «السياحة الشعبية» خاسرة، بحكم مردودها المتدنّي بسبب انخفاض سعر الخدمات التي تقدّمها، يتبيّن اليوم أنها منشآت رابحة، وإن بنسب متواضعة (بالمقارنة مع المردود الذي تُحقّقه منشآت سياحية كبرى)، فضلاً عن أنها لا تستنزف الاقتصاد ومقدّرات وزارة السياحة، بل على العكس من ذلك؛ إذ إنها ترفد خزينة الدولة بمبالغ لم تكن في الحسبان.
هكذا، باتت تُنظّم رحلات يومية إلى منشآت «سياحة الفقراء»، لا تُكلّف الأفراد سوى مبالغ زهيدة، فيما أضحت مناطق سياحية شعبية قِبلةً للسياح السوريين، كرأس البسيط ووادي قنديل، أقصى شمال اللاذقية. وكمثال على ذلك، استقبل شاطئ منتجع «لابلاج» في وادي قنديل التابع لوزارة السياحة، صيف العام الفائت، أكثر من 14 ألف شخص ببطاقات دخول يومية تكلفة كلّ منها 200 ليرة، بينما سجّلت الأكواخ الخشبية العائلية، التي يبلغ عددها 24 ويتّسع كلّ منها لإقامة 4 أشخاص، استقبال نحو 9200 شخص، وفق إحصاءات رسمية.
ومع زحمة المنتجعات السياحية الكبرى الحكومية والخاصة، فإنّ سياسة جديدة باتت تُعتمد فيها، عبر ضبط الهدر في الفنادق الحكومية، وتحقيق مستوى سنوي من مشاريع الصيانة الجزئية، وتحديد حجم تحويل مالي من أرباح الفنادق إلى الخزينة العامة للدولة وصل نهاية عام 2019 إلى مليارين و50 مليون ليرة، إضافة إلى ما يُلحظ من أرقام واعدة لهذا الصيف، على رغم المصاعب الحالية المعروفة، فيما لم يتجاوز حجم التحويل لعام 2018 مبلغ 550 مليون ليرة، و658 مليون ليرة لعام 2017. وفي حين دخل «مسبح الشعب» حيّز الخدمة أخيراً، وسط محيط منكوب بالعشوائيات والفوضى، وبطاقة استيعابية تصل إلى 1500 شخص يومياً، فإنّ 600 شخص يُعدّ رقماً كافياً في ظلّ الظروف الصحّية المتعلقة بوباء كورونا. وكان يوم عيد الأضحى الفائت أول أيام دخول المسبح الشعبي العمل، من خلال كلفة دخول للشخص الواحد تصل الى 300 ليرة سورية. وعلى شاكلة هذا المسبح، فإن لائحة من الأماكن المخصصة لـ«السياحة الشعبية» أصبحت مقصودة بقوة من قِبل المواطنين، من دون الاكتراث بمتطلّبات التباعد الاجتماعي، باستثناء ما توفره إدارات المنشآت السياحية تلك من شروط تستجيب للتعليمات الحكومية.