نقلا عن الجزيرة نت - خميس بن بريك
في حي العطار بمنطقة سيدي حسين السيجومي أحد الأحياء الشعبية الفقيرة المتاخمة للعاصمة التونسية يجلس "البرباش" جموعي بوثوري على كرسي بمقهى ليلتقط أنفاسه من تعب يوم شاق أمضاه في البحث عن بقايا البلاستيك في مصب برج شاكير للنفايات.
يبدو المقهى منزويا وكئيبا فيما تظهر لعبة طاولة كرة القدم جاثمة أمام واجهتها بلا مغزى. هنا تعوّد جموعي على الاستراحة غير عابئ بالروائح الكريهة المنبعثة من خلف أسوار مصب برج شاكير الذي يخزّن فضلات العاصمة ومحافظات مجاورة لها.
في كل يوم يبدأ هذا الشاب الأربعيني رحلة البحث عن مشمعات البلاستيك في مصب برج شاكير ليشحنها بإحدى سيارات نقل البضائع ثم يبيعها للتجار بمقابل زهيد. وكغيره من "البرباشة" (منقبو النفايات في تونس) يغامر بحياته وسط أطنان من النفايات الخطرة بحثا عن قوته.
الرغيف المر
تشي قسمات وجهه العابس وثيابه المتسخة بواقع مرير لكثير من التونسيين الذين أجبرهم الفقر على العمل بمهن شاقة لسد احتياجات عائلاتهم. ويقول جموعي وهو والد لـ 4 أبناء إنه ورث العمل عن والده بعد انقطاعه مبكرا عن التعليم لسد رمقهم.
يشيح جموعي بعينه بعيدا لرؤية شاحنات تمر حذو جدار مصب برج شاكير الطويل لتفرغ شحنتها من النفايات داخله. يشبه المصب قاعدة عسكرية مغلقة لا يمكن اختراقها، بينما توحي علامات التنبيه بعدم التصوير خارجه بأن شيئا مريبا يحدث بالداخل.
يقول جموعي إن ما يحدث خلف أسوار المصب يكشف عن حقيقة معاناة جزء من التونسيين الذين يقتاتون من الفضلات في واقع يتسم بتفاقم معدلات الفقر والبطالة وتدهور المعيشة واتساع رقعة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية ولا سيما في ظل أزمة كورونا.
وبلغت نسبة البطالة في النصف الأول من العام الجاري 18%، في حين تم فقدان أكثر من 161 ألف وظيفة جراء أزمة فيروس كورونا التي أثرت بشكل كبير على الاقتصاد التونسي مسجلا تراجعا بنسبة سالبة وصلت إلى 21.6% في الثلث الثاني من العام الجاري 2020.
وكشف معهد الإحصاء الرسمي حديثا عن دراسة بعنوان "خارطة الفقر بتونس" عن ارتفاع معدلات الفقر لمستويات قياسية خاصة بالمناطق غير الساحلية وتحديدا وسط البلاد وشمالها، بينما تقل معدلات الفقر بالعاصمة، لكنّ أحياءها الشعبية تظل بائسة.
وتؤكد إحصاءات المعهد بناء على آخر نتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2015 أن نسبة الفقر في تونس بلغت 15.2%، في حين تصل نسبة الفقر المدقع إلى 3%.
ويصل عدد العائلات المعوزة أو الفقيرة، بحسب إحصاءات وزارة الشؤون الاجتماعية، إلى نحو 285 ألف عائلة، في حين تبلغ العائلات محدودة الدخل نحو 620 ألف عائلة. وتتمتع هذه العائلات ببطاقات علاج مجانية ومنح مالية شهرية لا تتجاوز 70 دولارا.
ومع ذلك يبقى آلاف التونسيين خارج التغطية الاجتماعية مثل الخياط حسين الذي يعيش وضعا اجتماعيا صعبا بلا بطاقة علاج ولا تقاعد ولا مساعدات. ولسد رمقه يقوم بطرز أغطية مقاعد السيارات من بقايا أقمشة يشتريها من جامعي النفايات.
داخل ورشة ضيقة جدرانها بالية يجلس حسين ككل يوم على كرسي آلة الخياطة ليصمم أشكالا مختلفة من أغطية السيارات دون أن يجني ثمار تعبه. ففي آخر النهار يكون قد كدس عشرات الأغطية داخل محله دون أن يبيع منها إلا القليل، وفق قوله.
يفتح الرجل محفظة نقوده أمام عدستنا فتظهر بضعة نقود لا تغني، في إشارة إلى ضيق حاله. وليس لهذا الخياط مورد رزق آخر مما يجعل مدخوله رهين ما يجنيه من مبيعاته التي تراجعت بشكل جعله يعجز عن توفير قوت عائلته أو شراء أدويته.
وبينما يزداد فيروس كورونا انتشارا في تونس حاصدا أرواح أكثر من 180 شخصا، تزداد مخاوف هذا الرجل من العدوى بسبب علمه بإلقاء فضلات طبية خطرة من المستشفيات في مصب برج شاكير حيث يقلب "البرباشة" النفايات بلا حذر.
والمخاطر لا تثني جزءا من التونسيين عن العمل في مهن شاقة بأجور زهيدة بسبب ما يعانونه من خصاصة. فرغم عديد حوادث السير التي أزهقت أرواح عاملات تواصل بديعة منذ سنوات العمل بضيع فلاحية بأجر متدن راكبة مخاطر النقل.
فمع طلوع فجر كل يوم تتجه هذه العاملة على متن شاحنة صغيرة متهالكة لإحدى الضيع بمدينة قرمبالية الشمالية مع نساء أخريات للظفر بلقمة العيش. وتقول للجزيرة نت إنها تكسب يوميا 6 دولارات لتنفقها على زوجها العاطل عن العمل وأبنائها الصغار.
رواتب التقاعد
ولا تقل أوضاع المتقاعدين سوءا في تونس بسبب تدهور معيشتهم. ويشمل هذا الوضع السبعيني أحمد التليلي الذي كان يعمل سابقا نجارا بأحد المصانع. ويعيش هذا الرجل بمنطقة المرناقية المحاذية للعاصمة في منزل متواضع مع زوجته.
ورغم أن هذه المنطقة لا تبعد كثيرا عن العاصمة، فإن البنية الأساسية لبعض أحيائها تعري حجم الفقر. ففي إحدى طرقاتها يقود هذا الرجل عربة يجرها حمار أبيض، بينما ترافقه ابنة ولده الصغيرة لشراء قوارير الغاز تحسبا لتقلبات الطقس وانخفاض الحرارة.
يقول أحمد الذي لا يتخطى راتبه التقاعدي عتبة 200 دولار في الشهر، إنه أصبح يعيش ظروفا قاسية في ظل ارتفاع الأسعار، في وقت يعاني فيه مع زوجته من عديد الأمراض المزمنة، ملقيا باللوم على ضعف الدولة والتلاعب بالأسعار دون رقيب.
وأظهرت دراسة نشرها معهد الدراسات الإستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية في يونيو/حزيران 2019 أن هناك 117 ألف متقاعد في تونس يتقاضون رواتب تقاعدية شهرية بقيمة 100 دينار (نحو 40 دولارا)، في حين يقبع 3% من كبار الموظفين المتقاعدين تحت خط الفقر.