نقلا عن صحيفة الأخبار - بيروت حمود
لعلّها المرّة الأولى التي يُمنع فيها المؤمنون من زيارة الأرض المقدّسة، ويُجبَر الرهبان على إغلاق كنائسهم، ويفقد المرضى والفقراء آمالهم البسيطة التي كانت تُمدّهم بها دور العبادة الموصَدة منذ أشهر بأمر «كورونا». لا سيّاح ولا حجّاج يطرقون بوّابات تلك الدور، لتبدو السياحة الدينية في فلسطين المحتلّة، في ظلّ تشديد الإغلاق، وكأنها تحتضر هي الأخرى.
فرغت كنيسة القديسة حنّة من المصلّين والزائرين، فيما الطريق الشمالي للمسجد الأقصى لم تُرَ فيه منذ شهور مجموعات المؤمنين المسيحيين الآتين للتبارك والصلاة، في المكان الذي وُلدت فيه مريم العذراء، وحيث ألقى يسوع المسيح مُقعداً في بركة ماء فمشى. وهناك، منذ شهور، يسود الصمت، وكأنه بدأ في نقطة تقع على يمين الداخلين إلى القدس من باب الأسباط، ولم يحدث حتى الآن أن خرقه صوت!
لم يحدث ذلك كلّه إلا لأن المؤمنين في بقاع الأرض يُحجرون في بيوتهم منذ أشهر بسبب تفشّي فيروس كورونا، ويُمنعون بصفتهم سيّاحاً دينيين، وكجزء من إجراءات فرض الإغلاق ومنع الرحلات الجوّية بين الدول، من الوصول إلى فلسطين المحتلة لزيارة الأماكن المسيحية المقدّسة أو الحجّ.
«منذ شهر آذار، توقفت كلّ أشكال السياحة نهائياً، ومعها توقف الحجّ إلى الأراضي المقدسة»، يقول رئيس كنيسة القديسة حنّة، ميليتيوس بصل لـ«الأخبار»، لافتاً إلى أن هذا الوضع «تَسبّب بضائقة مالية لقطاع السياحة، وبشكل خاص للأماكن المقدّسة والمزارات التي كانت تعتمد على الحجّاج بشكل كبير». تُفاقم المشكلةَ أعمالُ التضييق التي تمارسها السلطات الإسرائيلية على دور العبادة بحجّة لجم «كورونا»، ومن بينها تحديد التواجد وقت الصلاة بعشرة أشخاص، وهو ما أدّى «إلى إغلاق عدّة مزارات ككنيسة القيامة، التي هي أهمّ معلم ومكان مقدّس في العالم بالنسبة إلى المسيحيين».
الفيروس الذي يحصد أرواح البشر منذ أشهر، أطبق حصاره على رجال الدين أيضاً. وكما يشرح الأب بصل، فإن القرار الأخير بالإغلاق الشامل، والذي اتّخذته السلطات الإسرائيلية، «يحدّ من تنقلات رجال الدين والرهبان، ويحدّد أماكن إقامتهم، ويفرض الصلوات الفردية أو تلك المقتصرة على عدد محدّد»، وهو ما «حرم رجل الدين من القيام بواجبه الروحي والديني للمؤمنين وللمرضى... أنا كرجل دين مسؤول عن مزار دير القديسة حنّة، اضطررت لإغلاق الكنيسة بسبب مضايقات السلطات وتعليماتها، لأن أيّ مخالفة للتعليمات تعني دفع مبالغ ضخمة». أمّا بالنسبة إلى رجال الدين الأجانب، الذين يحصلون عادةً على فيزا خاصة للإقامة الدينية داخل الكنائس والأديرة، فيتمّ تجديد تأشيراتهم خلال هذه الأوضاع، وعند سفر أحدهم أو عودته «يخضع، كما الآخرين، لإجراءات الحجر والوقاية... توقُف السياحة الدينية منع أيضاً قدوم رجال الدين للإقامة، فالرهبان عادة ما يتبدّلون».
ظهور الفيروس المستجدّ نهاية العام المنصرم، ومن ثمّ وصوله إلى فلسطين المحتلة، منع تحقيق قفزة جديدة في عدّاد السياح الدينيين المسيحيين. وعلى الرغم من أنّ لا تعريف دقيقاً للسياحة الدينية، أظهرت آخر معطيات أصدرتها وزارة السياحة الإسرائيلية في شهر آذار/ ماس الماضي الارتفاع المتواصل في عدد هؤلاء السيّاح. إذ بلغ عدد مَن زاروا الأرض المحتلة نهاية العام الماضي أربعة ملايين ونصف مليون سائح، وهو رقم غير مسبوق. والمفاجأة هي أن مليوناً على الأقلّ من هؤلاء أتوا في مجموعات سياحية منظّمة، لا كأفراد أو ضمن عائلات، الأمر الذي يُعدّ هو الآخر غير مسبوق. وبالمقارنة مع عام 2016، فقد ارتفع عدد السيّاح الدينيين عام 2019 بزيادة حوالى نصف مليون.
يوضح المرشد السياحي، سُفيان أبو حنا، أن «غالبية الحجاج الذين يصلون إلى الأراضي المقدسة يصلون عادة في برنامج سياحي منظّم لمدّة ثمانية أو تسعة أيام، يبيتون خلاله فترة في الجليل حيث يزورون طبريا وكفر كنا والناصرة، ومن ثمّ يبيتون بقيّة الأيام في القدس وبيت لحم اللتين تضمّان أهمّ المزارات الدينية المسيحية». ويضيف أن «توقّف السياحة الدينية حرم المئات وربما الآلاف رزقهم، وخاصة مِمّن يعتمدون اقتصادياً على السياحة الدينية، مثل أصحاب المحلات القريبة من الكنائس وخاصة في ساحة كنيسة المهد في بيت لحم». عمل أبو حنا ليس سهلاً على الإطلاق، لأن «تحصيل رخصة عمل مرشد سياحي من وزارة السياحة الإسرائيلية يتطلّب وقتاً طويلاً، وشروطاً أكاديمية ومؤهلات صعبة جداً... ولكن مؤخراً وبسبب زيادة الطلب بدأت الوزراة تسهّل الشروط».
اللافت أنه، بحسب معطيات سابقة نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن في إسرائيل 7500 مرشد سياحي، في حين أن العاملين الفعليين في هذا المجال هم 5000 فقط. والرقم يشير إلى النقص الملحوظ بالمقارنة مع زيادة الطلب، ولعلّ السبب في ذلك، فضلاً عن الشروط الصعبة، هو تدفّق السياحة الدينية أخيراً من دول لا تتحدّث لغات عالمية مثل بعض دول شرق آسيا. ولذلك، بحسب أبو حنا، «هناك مرشدون سياحيون باتوا يسافرون إلى الصين أو اندونيسيا لتعلّم لغات تلك البلاد من أجل سدّ النقص في أعداد المرشدين السياحيين والتغلّب على مشاكل اللغات غير العالمية».
ارتفاع أعداد السيّاح الدينيين لم يكن مرهوناً بتحسين شروط البنى التحتية لهذه السياحة. إذ خلال الأعوام السابقة، وبينما كانت ترتفع أعداد السياح، ظلّت هناك فجوة في أعداد الفنادق وأماكن المبيت والحافلات. حتى أنه في بعض الأحيان، «اضطرّ منظّمو بعض الرحلات الدينية لاستئجار حافلات مدرسية بسبب النقص في الحافلات السياحية. والمؤسف أن كُثراً مِمّن استعدّوا لاستقبال السيّاح هذا العام، ومَن اشتروا حافلات بأسعار باهظة يركنونها اليوم أمام شركاتهم بسبب كورونا»، وفق أبو حنا.
وتُعتبر السياحة الدينية المسيحية سياحة فقيرة بالمفهوم الاقتصادي؛ كون غالبية السيّاح هم من الشرائح المتوسّطة وما دون في بلدانهم، ولذلك فهم لا يأتون في عيد الفصح، وإنما قبله وبعده. والسبب، بحسب أبو حنا، «زيادة الطلب وارتفاع الأسعار خلال الفصح، الذي تتوقف السياحة بعده لعدّة أشهر (بسبب حرارة الطقس وبسبب ارتفاع الأسعار خلال الموسم السياحي الصيفي) لتعاود التحرّك في أشهر أيلول وتشرين الأول وتشرين الثاني». وبحسب تقديرات وزارة السياحة الإسرائيلية، فإن معدّل صرف السائح يصل إلى حوالى 1400 دولار، وهو مبلغ ليس كبيراً قياساً بمستوى الأسعار السياحية وكلفة المعيشة. يُذكر أن الصين وإيطاليا سجّلتا أعلى نسبة ارتفاع في عدد السيّاح الدينيين منهما إلى فلسطين المحتلّة خلال العام الماضي، بزيادة 51 في المئة في الأولى، و30 في المئة في الثانية.