(جريدة الأخبار اللبنانية)
لم تعد حياة العاملين في خط الدفاع الأول في مواجهة فيروس «كورونا» تشبه ما كانت عليه قبل دخول الفيروس البلاد. تغيّرت عادات كثيرة، وحلّت أخرى طارئة مكانها. حتى العلاقة مع العائلة والمحيط باتت أكثر حذراً وحيادية. ولئن كان هؤلاء يجبرون أنفسهم على فعل ذلك خوفاً على من يحبّون من ناحية، وعلى المرضى من ناحية أخرى، إلا أن ما لا يفهمونه هي الصورة التي يقابلهم بها البعض، لناحية نفورهم منهم، وكأنهم هم من يحملون الفيروس
ثلاث عشرون، كان أمس عدد الإصابات في صفوف العاملين في القطاع الصحي. لا أحد يتنبّه لرقم كهذا في غمرة الانشغال بـ«الألف... وطلوع» التي يسجّلها عدّاد كورونا يومياً. يمرّ هذا الرقم عابراً في التقرير اليومي الذي تصدره وزارة الصحة العامة، كأنه لم يراكم إلى الآن 1130 إصابة.
وحدهم العاملون في ذلك القطاع ينتظرون عدّادهم اليومي، وكلما زاد الرقم زاد القلق، كما الخوف عندما يأتيهم خبر تعب أحدهم أو موته. وقد اختبروا هذا الشعور مع وفاة لؤي اسماعيل، أول طبيب في مواجهة كورونا، ومن ثم الممرضة زينب حيدر.
عندما دخل فيروس كورونا الى لبنان، كان من الطبيعي أن يكون هؤلاء في خط الدفاع الأول في المواجهة. في البداية، لم تكن خياراتهم سهلة. صحيح أن أحداً لم يفرض عليهم الانضمام إلى الأقسام الخاصة بمعالجة المصابين بالفيروس، إلا أن مجرّد سؤالهم عن رغبتهم في الانضمام كان يجرّ وراءه صورة واحدة: «عائلتي». هذا ما قاله معظم العاملين في القطاع لدى سؤالهم عن تلك اللحظة. لا أحد يعرف ما الذي تعنيه تلك الكلمة، سوى من فاته احتضان أمّه منذ بضعة أشهر، تماماً كما هي حال ميريلّا خلّي، الممرّضة في «قسم الكورونا» في مستشفى بيروت الحكومي. تفصيل صغير قد لا يعوّل عليه كثيرون، لكنه بالنسبة إلى العاملين في القطاع الصحي يعني الكثير، وخصوصاً «عندما تصبح حياتك مش متل أي إنسان عادي»، تقول خلّي.
في فترة الاستراحة التي تفصلها عن بدء الـ»shift» المسائي في قسم الكورونا، تقصّ خلّي جزءاً مما صارت عليه حياتها بعد الفيروس. تحاول جاهدة أن تروي ما لديها في «عشر دقايق»، قبل الالتحاق بالعمل. تبدأ منذ اللحظة الأولى عندما سٌئلت عمّا إذا كانت ترغب في العمل في القسم. يومها، لم تفكّر في ما قد يعنيه هذا الأمر. جلّ ما كانت تطمح إليه هو ما ستضيفه إلى سيرتها الذاتية: «في البداية، فكّرت بالتجربة الجديدة التي يمكن أن تغني مسيرتي المهنية، وخصوصاً إنو مش الكل رح يكون عندهن هيدي الخبرة». بعدها، اكتشفت أن ثمة شيئاً آخر كان عليها التفكير فيه في تلك اللحظة: عائلتها. فبعدما بدأت عملها في قسم الكورونا، لم تعد الشابة ترى عائلتها، وحتى عندما زارت والديها، في الجبل، للمرة الأولى بعد شهرٍ من العمل، لم تستطع الاقتراب منهما. اكتفت بالتلويح لهما من بعيد. أما في منزلها في بيروت، حيث تقطن وشقيقاتها، فقد بات لها نمط حياة خاص، إذ تحاول قدر الإمكان الحفاظ على مسافة بينها وبينهن، فلا تجلس معهن على الأريكة نفسها، أو في مكانٍ مغلق. أما «النومة»، فقد نقلت خلّي منامتها إلى غرفة والديها. ما غيّره عملها الطارئ هو أنه جعلها «أكثر حذراً في التعاطي، حتىمع أقرب الناس»، وكذلك الحال في تعاطيها مع الآخرين، إذ «خفّفنا الـ social life، وصار شغلنا كلّو على التلفون».
تبدلت حياة العاملين في القطاع مع فيروس كورونا، ولا سيما لناحية العلاقة مع العائلة التي تتأرجح بين مدّ وجزر من جهة، وعلاقة المحيط معهم التي تتّسم في الغالب بالخوف منهم، «كأن الكورونا أتى إليهم عندما يروننا»، هذا ما تقوله الطبيبة آنّا ماريا الياس. حتى في يومياتهم، تخلّى هؤلاء عن الكثير من العادات، فيما دخلت عادات أخرى فرضها التعايش مع مرضٍ سريع العدوى والانتشار. هكذا، اتخذت الحياة «شكلاً آخر».
بدأت الياس عملها في قسم الكورونا قبل شهرين، ومنذ ذلك الوقت لم تعد الكمامة تفارقها ولا أدوات التعقيم. باتت هذه «العدّة» أساسية في حياتها، سواء في المستشفى أو في المنزل، ووصل التعلّق بها إلى حدّ «السرساب»، حتى أصبحت مع الوقت روتيناً يومياً تتبعه الطبيبة الشابة. قد تنسى صباحاً مفاتيح سيارتها، أما الكمامة فـ«لا». حتى التعقيم صار طقساً. إذ لا تلمس شيئاً من دون أن تعقم يديها، وكذلك الحال عندما تنتهي منه. في البيت، تتبع أسلوباً صارماً في الوقاية: «عندما أمسك مثلاً هاتف أحد من عائلتي أعقّم يديّ قبل أن أمسكه وبعد أن أنهي المكالمة ثم أرشّه بالمعقمات قبل أن أعيده».
ما تفعله الياس تفعله أيضاً الممرضة رباب الملاح، صحيح أن هذه الأخيرة لم تعمل في قسم مخصّص للكورونا، إلا أنها تحرص على الوقاية، خوفاً من نقل أي عدوى لأمها وشقيقها. هذا الحرص يدفعها إلى التخلي عن عادات كثيرة، منها مثلاً «بوسة حسونة»، شقيقها الصغير. تقول الملاح إنها منذ خمسة أشهرٍ لم تقترب من شقيقها ووالدتها، حتى في البيت «صارت نومتي لحالي وأغراضي، كما امتنعت عن أشياء كثيرة أخرى، منها زيارة جدتي لأنها كبيرة في السن أو الخروج مع أصدقائي خوفاً من التقاط العدوى ونقلها لعائلتي وللمرضى». في مقابل ذلك، أدخلت الملاح عادات جديدة، منها مثلاً «تناول أدوية تعمل على تقوية المناعة».
صحيح أنها إلى الآن لم تخالط مريضاً بالفيروس سوى مرّة واحدة، إلا أن مجرّد عملها كممرضة يجعلها أشبه بـ«قنبلة موقوتة» في المنزل. هذا ما تقوله والدتها لها. فكلما اشتدّ الخلاف مع والدتها، رمتها الأخيرة بعبارتها الشهيرة التي تحفظها عن ظهر قلب «ما حدا رح يجبلنا الكورونا ع البيت إلا أنتي». وغالباً ما تصبح الـ«إنتي»... «إنتو»، وخصوصاً عندما يزورهم في المنزل خطيب رباب الذي يعمل هو الآخر في الطابق المخصص لكورونا في أحد المستشفيات في جبل لبنان. إلى الآن، أجرت الملاح فحص الـ pcr مرتين، وفي المرتين باتت خارج المنزل ريثما تصدر النتيجة، أما خطيبها فخضع لستة فحوص. وهو في رأي رباب «رقم قليل»، ذلك أن ممرضين آخرين من معارفها أجروا الفحوص أكثر من 10 مرات. تروي رباب حكاية إحدى صديقاتها في مستشفى بيروت الحكومي والتي نامت شهراً كاملاً في المركز الذي خصصه المستشفى للعاملين، وكلما أرادت زيارة والدتها بين الفينة والأخرى «كانت تأخذ إجازة من عملها وتحجر على نفسها لثلاثة أيام ومن ثم تجري الفحص قبل الزيارة».
عندما يسألني أحد عن مهنتي أقول أي شيء إلا التمريض لما بات لهذه الكلمة من وقع سيئ!
ندى شمس الدين، طبيبة أمراض جرثومية وأمّ في الوقت نفسه، غير أن الفيروس فرض عليها إجراءات جديدة من التعاطي مع عائلتها لناحية الالتزام بالمعايير الصحية. صحيح أن وضع الأطباء يختلف عن العاملين والممرضين، لكونهم ليسوا دائماً على تماس مع المرضى، إلا أن لهؤلاء عياداتهم الخاصة ومرضاهم وقد «نكون معرضين أيضاً». وهذا ما يفرض عليهم نمطاً معيناً. تروي شمس الدين أنها للمرة الأولى لم تستقبل ابنها العائد من السفر بالطريقة التي اعتادتها، وإنّما «من بعيد لبعيد». ولئن كانت تشتاق للحياة ما قبل الكورونا، إلا أنها لا تجد مفراً من التعاطي بتلك الحيادية خوفاً على حياتهم.
ما يوجع شمس الدين أكثر من «حيادية» العلاقة مع العائلة العبء والخوف الذي يعيشونه مع مرضاهم، فغالباً ما «يكون كل شيء مضاعفاً هنا: الجهد والوقت والخوف»، وهذا لا يعرفه إلا «من يعيش بقلب هالمواجهة». مع ذلك، لا يفهم الكثيرون ذلك، فحتى في علاقتهم مع عائلاتهم، ثمة خوف وحذر وإن ليس ظاهراً، من مهنة هذا الشخص الذي يتقاسم البيت معهم. ولئن كان يمكن استيعاب ذلك الخوف، إلا أن ما لم يهضمه هؤلاء هي النظرة النمطية للناس تجاه هذه الفئة والتي يعتبرونها «حاملة للفيروس بمجرد العمل في مستشفى ولو لم يكن يستقبل مرضى كورونا»، تقول شمس الدين. أكثر من ذلك، يخاف الناس من «سيرة» التمريض والطب، حتى دفع ذلك برباب الملاح إلى «تغيير» مهنتها لدى سؤال الناس عنها. تقول «أيّ شيء، إلا التمريض»، لما لهذه الكلمة من وقع سيئ، قد يدفع بالبعض إلى «الابتعاد عنا»، تقول الملاح. لا تجد الأخيرة ما تقوله سوى «هذا ما فعلته فينا الكورونا».