نقلاً عن "180 درجة"
يبدو أنّ العالم في طوره الأخلاقي البدائي، فمع حمّى السرقات التي اجتاحته بسبب نقص المعدّات الطبيّة، بتنا نعيش حالةً من الفوضى تمارسها دولٌ، تمكّن فيروس كورنا "كوفيد-19" من تعريتها أخلاقياً أمام شركائها من النظام الدولي. لذلك أصبحت العودة إلى المفاهيم الكلاسيكيّة للأخلاق ضروريّة للغاية، وما يسري على الشخص الطبيعي في المجتمعات، يسري أيضاً على الدول في العالم.
لكن هنالك من يعتقد غير هذا الكلام، إذ يرى المؤرّخ الأميركي آرثر ماير شليزنجر (Arthur M.Schlesinger)، ومؤلّف الكتاب الشهير “القوّة الناعمة” جوزيف ناي (Joseph S. Nye)، بأنّ الأخلاق الدوليّة لا يمكنُ استنباطها من الأخلاق الفرديّة. ويوردان على غرار ذلك، مجموعة من الأسباب، من أهمها على الإطلاق نذكر اثنين:
أولاً: موضوعات السياسة لا تحتمل في عمومها، الأحكام الأخلاقيّة التي نحكمُ بها على الأعمال الفرديّة للأشخاص، من قبيل “جيد” و”حسن” و”سيء”، وإنّما تسير العلاقات الدولية بمنطق “مناسب” و”غير مناسب”.
ثانياً: الأحكام التي نطلقها على الأفراد، من شأنها أن تعرقل العمل الدبلوماسي وتضرّ به. ولأنّ الدول لن تتصرّف كأفراد طبيعيين مهما حدث، فإنّ مفاهيم من قبيل “الأخلاقيّة العالميّة” (Cosmopolitan Morality)، لن يكون لها تماس ماديّ مع الواقع أبداً.
ورغم ما تقدّم، يبدو أن واقع الحال هذه الأيام، لن يترك مجالاً لممارسة نوعٍ من “اللباقة/ الصوابيّة السياسيّة” (Political correctness).
سرقات موصوفة للكمّامات الطبية
في الشهر الماضي، اشترت السلطات التشيكيّة آلاف الكمّامات الطبيّة كانت في اتّجاهها نحو مستشفيات إيطاليّة. هذه الكميات كانت عبارة عن هبة قدّمتها السلطات الصينيّة لنظيرتها الإيطاليّة في إطار رغبة الصين في لعب دورٍ أخلاقي في أوروبا.
ولم تكد تنقشع هذه الغيمة حتى نقل موقع قناة “دويتشه فيله” الألماني، تصريحاً مثيراً لوزير داخلية ولاية العاصمة الألمانيّة برلين، أندرياس جايزل قال فيه “إن مسؤولين اميركييّن في تايلاند صادروا كمّامات وجه طبية”، متّهماً الولايات المتحدة بـ”القرصنة العصرية”، واستخدام “أساليب الغرب المتوحش”.
سارع إثر ذلك الرئيس الاميركي دونالد ترمب إلى نفي الاتهام عن بلده في ما بات يُعرف إعلامياً بـ”قرصنة 200 ألف كمّامة طبيّة كانت متّجهة إلى برلين”، في مؤتمر صحافي عُقد في البيت الأبيض ليل السبت إلى الأحد 5 نيسان/ إبريل الجاري، قائلاً: “لم يكن هناك عمل قرصنة، بل على العكس”.
وكان المسؤولون الألمان قد قالوا في البداية إنّهم تعاقدوا مع شركة اميركيّة، مما أدى إلى تكهنات بأن الشركة هي (ثري إم)، لكن المسؤولين قالوا في وقت لاحق إنّه كان تاجرًا ألمانياً. وقالت “ثري إم” في وقت سابق لوكالة الأنباء الألمانيّة (د.ب.أ) إنّها لم تجد ما يشير إلى مصادرة الكمّامات. كما أنّ الشركة ليس لديها أوراق تفيد بوجود شحنة أقنعة متجهة إلى برلين. وقال مسؤولون في برلين يوم السبت الماضي إنّهم ما زالوا يعملون لتحديد ما حدث لكمّامات الوجه “إف إف بي2-” المعتمدة، حسب ذات المصدر.
وكانت قد حدثت واقعة غربية خلال الأسبوع الماضي تحدّثت عنها وسائل الإعلام الألمانيّة وهي اختفاء 200 ألف كمّامة واقية من فيروس كورونا، كانت في طريقها إلى برلين قادمة من تايلاند لكنّها صودرت ونقلت إلى الولايات المتحدة، حسب تصريحات وزير داخلية برلين.
وكان موقع “الجزيرة. نت” قد أورد خبراً مشابهاً في فرنسا، إذ قالت رئيسة إقليم “إيل دو فرنوس” فاليريا بيكريس قبل أيام أنّ الاميركيين حصلوا في الأنفاس الأخيرة على شحنة من الكمامات كانت قد طلبتها سلطات الإقليم، وذلك بعدما ضاعف الاميركيون المال للجهة المصنّعة.
وقد صرح مسؤولون فرنسيون في إقليمين آخرين على الأقل – حسب ذات المصدر- بأنّ مشترين اميركيين حصلوا على شحنات كمامات صينية الصنع كانت موجهة لفرنسا، وجرى الأمر بالنسبة لإحدى الشحنات في مدرج مطار صيني قبل أن تقلع الطائرة باتجاه فرنسا.
وفي إطار النفي؛ صرّح مسؤول بارز في الإدارة الأميركيّة لوكالة الصحافة الفرنسيّة بأنّ الحكومة الفيدراليّة لم تشتر من بكين أية شحنات كمّامات كانت موجهة لباريس.
لكن فرنسا التي لم تحرز قصب السبق في “كشف” السرقة الموصوفة التي تعرّضت لها، كما حصل مع برلين، فسرعان ما انقلب السحر على الساحر وتحقّق القول المأثور “رمتني بدائها وانسلّت”، إذ إنّه وفي بلد لا يعبأ كثيراً بالفيروس العالمي اسمهُ السويد؛ اتّهمت شركة “مولنليك” الطبية بدورها، السلطات الفرنسيّة بمصادرة ملايين الكمّامات والقفازات الطبية التي استوردت من الصين لصالح إيطاليا وإسبانيا.
ومن جهته، علّق رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو على هذه التقارير، مشيراً إلى أنّ بلاده راحت ضحية جديدة لمثل هذه التصرفات قائلاً: “إنّها مثيرة للقلق وأطلب من المسؤولين النظر في ادّعاءات مماثلة بأنّ الكمّامات يتم تحويلها بعيداً عن بلاده”. مضيفاً “نحتاج إلى التأكد من أنّ المعدات المخصصة لكندا تصل إلى كندا وتبقى فيها، وقد طلبت من الوزراء متابعة هذه القضية”.
وكان لافتاً للإنتباه، في السياق ذاته، ما نشره موقع القناة 12 الإسرائيلية بأن “الموساد” نفذ “عملية (أمنية) ناجحة” ليل الرابع عشر من آذار/مارس “بإحضار 100,000 جهاز فحص لفيروس كورنا إلى البلاد للسماح بزيادة الفحوصات للوباء القاتل”، من دون أن يحدد كيفية حصول ذلك.
ماركس وميرشايمر
ثمّة إسقاطان أكتفي بهما للتعليق على هذا الدرك الذي بلغهُ العالم من اقترافٍ جماعي لـ “اللصوصيّة/ Banditry”:
الأوّل لكارل ماركس، فهو يعتقد ساخراً أو جاداً أو الاثنين معاً بأنّ اللصوصيّة مهمّة ومفيدة، كونها توفّر مناصب شغل للشرطة. فلو بلغ المجتمع نقاءه الأخلاقي المطلق على نحو ما ينشد المثاليون والطهرانيون، فإنّنا سوف نجد أنفسنا في مواجهة حتميّة مع جيوشٍ من العاطلين عن العمل، من شأنهم أنّ يتحوّلوا إلى بروليتاريا رثّة وعمّال مياومون، لا تستفيد منهم الدولة شيئاً، ومن الصعب حالئذٍ أنْ يتحوّلوا إلى لصوص، لكوّنهم قد راكموا إلى جانب حراسة الأخلاق والمجتمع؛ التزاماً قانونياً يمنعهم من اقتراف إيّ خرقٍ أو سلوكٍ غير سويّ، ذلك أنّهم مدجّنون للسلطة ولا أمل في تحوّلهم إلى سببٍ لتوظيف غيرهم ضدهم.
الإسقاط الثاني طرحهُ أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة شيكاغو، ومؤسّس نظرية الواقعيّة الهجوميّة، جون ميرشايمر، حين تساءل بدهاءٍ لافتٍ وساخر: “إذا واجهت إحدى الدول متاعب في ظل النظام الدولي، فإنّها لا تستطيع ببساطة الاتصال برقم الطوارئ”.