نقلا عن موقع "بروجيكت سنديكيت"
بينما تطبق الحكومات قواعد التباعد الاجتماعي بدرجات مختلفة من الصرامة من أجل مكافحة جائحة فيروس كورونا الجديد، فإنه من المرجح أن يثير السؤال حول الفترة الزمنية لتطبيق مثل هذه الإجراءات جدلاً كبيراً.
إن العديد من الاقتصاديين وعلماء النفس يحذّرون من أن فترة طويلة من الاحتجاز المنزلي بحكم الواقع ستضر بالوضع المالي للناس وصحتهم النفسية، بينما يجادل علماء الأوبئة أن الإبقاء على الإغلاق التام سوف يساعد على تسطيح منحنى العدوى بشكل أسرع. وسوف يكون من الحكمة ان يأخذ صناع السياسات الذين يصممون مثل هذه الإجراءات بعين الاعتبار هذين الرأيين.
لحسن الحظ هناك الكثير من الأبحاث التي تتعلق بتقيد المواطنين بالإجراءات الحكومية.
في البداية، يحتاج الناس لمعرفة وفهم الأحكام من أجل التقيد بها، ولو اعتقد المواطنون أن أحد هذه الأحكام يمكن أن يؤدي إلى ضرر مادي أو غير مادي، سوف يكونون أقل رغبة بالتقيد به، ولهذا السبب يتوجب على الحكومات في بعض الأحيان استخدام الحوافز الاقتصادية أو العقوبات من أجل الحث على التقيد بمثل هذه الأحكام. لكن نهج الجزرة والعصا لن ينجح ما لم تكن المجموعة المستهدفة قادرة بالفعل على التقيد بالأحكام.
إن الإغلاق التام غير المسبوق، ردّاً على جائحة فيروس كورنا الجديد، مع إجراءات تمتد من العزل الاختياري إلى غرامات أو أحكام بالسجن لأولئك الذين ينتهكون تلك الأحكام، هو اختبار كبير لمدى إمكانية أن تتقيد شعوب كاملة بإجراءات حكومية صارمة.
إن إبقاء الناس في منازلهم في واقع الأمر هو شكل قانوني من أشكل الحبس في العديد من البلدان منذ قديم الزمان. لقد خرق عشرات الآلاف بالفعل تعليمات الإغلاق التام في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وغيرها من الأماكن، مما دفع الحكومات لفرض عقوبات أشدّ. ولكن بينما معظم الناس مستعدون للتقيد بقواعد التباعد الاجتماعي لفترة قصيرة، فإنّ الضغوطات المالية والنفسية ستؤدي في نهاية المطاف إلى تآكل هذا التقيد.
إذن، لو أراد صناع السياسات التحقق من أن تبقى إجراءات الإغلاق التام فعالة طيلة الفترة التي يعتقد علماء الأوبئة أنها ضرورية، فإنهم بحاجة إلى تصميم مثل هذه الإجراءات على أساس نهج متعدّد التخصصات وبمساعدة من علماء النفس والاقتصاديين، بالإضافة إلى الفنيين، ومن أجل الاستفادة القصوى من الإغلاق التام، يجب ألا تكون التكلفة الاجتماعية للإغلاق التام، وذلك فيما يتعلق بالمرض النفسي والاضطرابات العاطفية، أعلى من الضرر الذي يحاول الإغلاق التام منعه.
إن أحكام الإغلاق التام في ألمانيا والمملكة المتحدة وبلجيكا على سبيل المثال، والتي تسمح للناس بأن يخرجوا للمشي أو الركض، ولكن تمنع التجمعات العامة لأكثر من شخصين، قد يمكن تحملها لشهر أو اثنين، ولكن على النقيض من ذلك فإن الإغلاق التام في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا سوف ينجح لفترات أقصر من ذلك بكثير. إن بناء عناصر صحية ضمن إجراءات الإغلاق التام يعمل على تحسين قدرة الناس على التحمل والتقيد بالأحكام والإجراءات لفترات أطول، مما يعطي الحكومات المزيد من الوقت لبناء الدفاعات اللازمة ضد الفيروس. إن مثل هذه العناصر قد تشجع على عادات أفضل بين الناس والشركات على المدى الطويل.
إن تخفيف إجراءات الإغلاق التام قبل الأوان سيكون تصرفا غير مسؤول، ولكن الإغلاق التام الشامل، والذي يتضمن منعا لجميع النشاطات الخارجية، قد يأتي بنتائج عكسية، لأنه يزيد من التكلفة النفسية والاقتصادية للتقيد بالنسبة للناس والحكومات على حد سواء، حيث سيبدأ صبر الناس في النفاد، بخاصة عندما يبدأ وضعهم المالي بالتدهور، وتزيد تكلفة فرض تلك الإجراءات.
لكن هناك الكثير من النشاطات الاقتصادية، وعلى وجه الخصوص تلك التي تتضمن أعمالاً يدوية، يقوم بها عمال مهرة وشبه مهرة، والتي يجب أن تستمر مع المحافظة على بروتوكولات التباعد الاجتماعي. لقد تم تبني هذا النهج في كوبيك وانتاريو في كندا. علماً أنه من خلال تطبيق أحكام تجمع بين مستوى قابل للتطبيق من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية مع ضبط صارم لإجراءات "التباعد الاجتماعي" تستطيع الحكومات المساعدة في تعزيز الصلابة والمرونة المالية والنفسية للجماعات المستهدفة. إن هذا مهم على وجه الخصوص، وذلك نظراً لأن الإغلاق التام يؤثر على الفقراء بشكل أكثر سلبية من الأغنياء، ويبدو أن هذا التأثير سيكون طويل الأمد.
بالإضافة إلى ذلك، فإن البقاء بالمنزل بالنسبة لغالبية الناس في الدول النامية يعني البقاء بدون دخل. إن مثل هذه المجتمعات الهشة لديها صلابة ومرونة مالية محدودة، مما يعني أنه من غير المرجح على الإطلاق أن يتقيدوا بإجراءات الإغلاق التام التي تستهدف وقف الجائحة، كما أن قدرة الحكومات على التصرف محدودة لو كانت هناك ردة فعل كبيرة ضدها. إن هذا يشكل خطرًا إضافياً على الصحة العالمية. إن الاختبارات السريعة للكشف عن المرض على نطاق واسع ستكون حيوية للغاية في التصدي للجائحة في الدول الأكثر فقرا، وذلك إلى أن يصبح اللقاح الفعال في متناول الجميع.
وعليه، فإن احتواء جائحة فيروس كورونا يتطلب الآن مجموعة واسعة من التدخلات الأخرى، وذلك من تصنيع أجهزة التنفس الصناعي وغيره من المعدات الطبية لوحدات العناية المركزة، إلى جعل التشخيص الدقيق والعلاجات الفعالة متاحة على نطاق واسع. وبينما الأبحاث والتطوير ستأخذ بعض الوقت، فإن الحكومات لديها بالفعل التقنية اللازمة لإدخال ومراقبة وفرض قواعد ذكية للتباعد الاجتماعي، وذلك من خلال نظام تحديد المواقع "جي بي أس" والطائرات بدون طيار "درونز" وتحليلات البيانات الضخمة، وتقنيات الهاتف النقال المختلفة.
وفي واقع الأمر، نحن لدينا التقنية التي نحتاجها لإنشاء "مناطق خالية من فيروس كورونا الجديد" بشكل مؤقت ضمن البلدات والمدن، مع تقييد الحركة منها وإليها. إن مثل هذه المناطق يمكن إنشاؤها أولا حول المؤسسات الحكومية ومؤسسات الرعاية الصحية، ومن ثم توسيعها بشكل تدريجي لتشمل مدنا بأكملها.
إن منع جميع النشاطات الخارجية لفترات مطولة هو الحل الأقل ابتكارا، وهو حل قد يؤدي إلى ارتفاع ليس في حالات الاضطرابات النفسية فحسب، بل أيضا في الأمراض الجسدية والعنف المنزلي وتفكك الأسر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن منع النشاطات الآمنة خارج المنزل بحجة الحد من خطر حدوث انتهاكات أوسع للأحكام هو حجة ضد القانون والنظام نفسه. إن النظام الجزائي موجود على وجه التحديد لحماية حرياتنا من الانتهاكات من قبل الأقلية وليس لمعاقبة الجميع بشكل سابق لأوانه.
إن أحكام الإغلاق التام يجب أن تعزل الناس التي تنتهك تلك الأحكام وليس عامة الشعب. كما أن التباعد الاجتماعي لا يعني الحبس المنزلي. إن الإغلاق التام الشامل المرتبط بفيروس كورونا الجديد قد يعطي الشعور بأنه أحد التصرفات الجماعية التي تعبر عن الحذر والمسؤولية حاليا، ولكن كلما طالت فترة الإغلاق التام زادت احتمالية أن يشعر الناس بأن هذا عقاب جماعي لانتهاكات ترتكبها الأقلية. إن مثل هذه التدابير القاسية تهدد الروح المعنوية للناس، وتجعل مسألة التقيد بها مسألة أكثر صعوبة بكثير.