مجلة بقية الله - نسرين نصر (*)
اقتحم فيروس "كورونا" العالم حاملاً معه تغيّرات طالت الكثير من ملامح حياتنا الاجتماعيّة والأسريّة. ولم يكن الوضع التربويّ استثناء للقاعدة، فأطلقت معظم المدارس عمليّة التعلّم عن بُعد، الأمر الذي دفع معظم الأهل للشعور بعبء مستجدّ وصل حدّ المعاناة، والشعور أنّ هذه العمليّة برمّتها هي أصعب استحقاق تربويّ مرّوا به!
على الرغم من أنّ التجربة المرتقبة هذا العام، لم تكن مفاجئة بالمطلق، فهي دخلت حيّز التطبيق منذ شباط الماضي، ولو على صعيد ضيّق، ولكن مع ذلك، نرى كثيرين ما زالوا يعيشون حالة صدمة. لكن لنتّفق، ثمّة مُهمَّة جديدة على عاتق الأهل اليوم، فلنتساعد بإنجازها ناجحةً.
•مخاوف الأهل والمهمَّة الجديدة
تشكّل هذه المرحلة تحدّياً كبيراً للأهل ولصبرهم، إذ إنّهم سيمثّلون محور العمليّة التعلّميّة الأبرز، وهم المعنيّون بأمور لم تكن يوماً من مسؤوليّاتهم المباشرة، مضافاً لمخاوف تدور في خلدهم منذ إعلان انطلاق التعلّم عن بُعد، وسنورد أهمّ هذه المخاوف:
1- حداثة التجربة، الأمر الذي قد يجعل الموضوع ضاغطاً على الأهل من جهة، وقد يدفع التلميذ للتعامل مع التجربة باستخفاف من جهة أخرى.
2- ضرورة تفرّغ الأهل خلال معظم أوقات النهار لمواكبة الأولاد دراسيّاً، ما يشكّل عبئاً غير اعتياديّ، خاصّة لدى الأمّهات العاملات.
3- صعوبة ضبط التلميذ والمحافظة على انتباهه أثناء الحصص.
4- حرمان الطفل أحياناً من مصدر مهمّ للتفاعل الاجتماعيّ، خاصّة للقاطنين في مناطق لا أقارب لهم فيها.
5- المشاكل التقنيّة المتعلّقة بسرعة الإنترنت وانقطاعه المتكرّر، ومدى إمكانيّة المتابعة.
•تذليل العقبات وإنجاز المُهمَّة
هذا الجدال الواسع حول العقبات التي تواجه هذه المرحلة من التعلّم، تفرض علينا كاختصاصيّين طرح الأمور بواقعيّة وموضوعيّة، والاعتراف أنّ هذه التساؤلات مشروعة، وكلّنا أمل أن لا تتحوّل إلى هاجس وحاجز نفسيّ يجعلنا نستبق الأحكام على نتاج هذه العمليّة برمّتها. لذا، من المهمّ للأهل أن يتفهّموا بعض النقاط الأساسيّة:
1- أن نتذكّر أنّ هذه التجربة جديدة على أطفالنا، وقد يدفعهم ذلك إلى بعض السلوكات الرافضة لهذا النمط من التعلّم. هنا، علينا تفهّم خلفيّات هذا الرفض، ومحاولة طمأنتهم بهدوء؛ أنّ الأمور ستجري على ما يرام.
2- عدم القلق من فكرة عدم الجديّة وضياع هيبة التعلّم الحضوريّ؛ لأنّ الأبناء يتعلّمون منّا بالتماهي.
3- يجب تجنّب إنجاز فروضهم نيابةً عنهم، وتجنّب تسخيف التعليم عن بُعد، أو تصغير دور المعلّم؛ لأنّ ذلك من شأنه نسف صورة المعلّم المربّي من ذهنه من جهة، واستهتاره بكلّ ما يقدّم له من جهة أخرى.
4- من المهمّ الإشارة إلى أهميّة تذكير أطفالنا بالقيم المجتمعيّة والدينيّة في هذه المرحلة، وخاصّة قيم الأمانة والاحترام والامتنان؛ فمن خلال الأمانة سيتجنّب التلميذ اعتماد سُبل الغشّ في هذه المرحلة، وعبر الاحترام سيكون قادراً على استشعار هيبة معلّميه وسيوقّرهم، ولو عبر الشاشة.
5- من الطبيعيّ أنّ هذه الطريقة من التعلّم ستشكّل بعض الضغوطات الجديدة على الأهل، سواءٌ أكانت ماليّة أم تربويّة، لكن، فلنتذكّر أنّ هذه الطريقة هي الحلّ الأمثل والأكثر أماناً لأطفالنا.
6- من المتوقّع أن نجد صعوبة في ضبط توقيت درس الأبناء في الفترة الأولى؛ نظراً إلى حداثة التجربة من جهة، ونتيجة لكلّ الظروف التي أحاطت بالأبناء على الصعيدَين النفسيّ والصحيّ، والتي أدّت إلى الانقطاع عن التعلّم فترات طويلة من جهة ثانية.
7- تجنّب ذكر سيّئات أو عقبات هذه المرحلة، حتّى لا يشعر الطفل بالإحباط.
8- من الطبيعيّ أن نواجه تذمّراً أو قلقاً أو استخفافاً من أبنائنا تجاه هذه التجربة الجديدة، لذا علينا عدم التوقّف عن تشجيعهم، والتركيز على إيجابيّات هذه الطريقة من التعلّم. وهذه النقطة تعتبر بالغة الأهميّة، فمن خلالها نستطيع ترسيخ مفهوم تربويّ ودينيّ مهمّ لدى أطفالنا، ألا وهو "استخراج الجميل من كلّ تجربة قاسية"، الأمر الذي سيكون بمثابة مفتاح مستقبليّ لأيّ إحباط سيواجهونه.
•إيجابيّات التعلّم عن بُعد
سنذكر أهمّ الإيجابيّات التي رافقت عمليّة التعلّم عن بُعد:
1- الحماية الصحيّة: التي أمّنتها لأطفالنا دون أن يخسروا عاماً دراسيّاً.
2- المرونة والخروج من النمطيّة في التعليم: ربّما كان حلم كثيرين منّا أن نكون مشاركين في عمليّة التعلّم، أو أن نتلقّى العلوم داخل غرفنا المريحة، أو أن يتمّ مثلاً حذف بعض الأهداف المكرّرة؛ هذا الحلم أصبح واقعاً، ويمكننا استثماره لتحفيز أولادنا، والتأكيد على فكرة أنّها فرصة جميلة لعيش تجربة من نوع مختلف.
3- فرصة حقيقيّة لتدريب الطفل على تحمّل المسؤوليّة وحلّ مشكلاته: فإشراك الطفل في وضع مخطّط اليوم الدراسيّ سيعطيه الثقة بنفسه، ويعزّز قدراته، فيعتبر نفسه شريكاً في صنع ملامح المرحلة الجديدة. ومن المهمّ أن نلفت أنظارهم إلى أنّ هذا المخطّط هو تجريبيّ، وسيتبلور للوصول إلى المخطط الأمثل بعد أيّام عدّة، فلذلك الأمر أثر نفسيّ بالغ في الطفل حتّى لا يشعر، في حال عدم نجاح المخطّط، أنّ العمليّة كلّها فشلت، بل سيعرف أنّ تغيير الطريقة سيعني تغيير النتيجة حتماً.
4- إمكانيّة التكرار: هي ميزة مهمّة جدّاً في عمليّة التعلّم عن بُعد، لأنّه وللمرّة الأولى، سيشعر الطالب أنّه يمتلك خاصيّة إعادة الدرس غير الواضح بالنسبة إليه، حتّى تحقيق الأهداف المطلوبة. وهذه الميزة هي عنصر اطمئنان للأهل أيضاً، وستساعدهم على الشعور بالأمان؛ نظراً إلى إحساسهم بأنّهم قادرون على مواكبة دروس الطفل بشكل مباشر ومرن.
5- قضاء وقت أطول مع أولادنا: وعيش تجربتهم التعليميّة وديناميّة علاقاتهم برفاقهم وأساتذتهم ولو عبر الشاشة.
•بعض مفاتيح الحلّ
لأنّ معرفتكم واطّلاعكم هما مفتاح نجاح هذه العمليّة التعليميّة، سنورد بعض النصائح التي ستساعدكم -بإذن الله- لتصلوا بأطفالكم إلى برّ الأمان:
1- لا تهملوا صحّة أطفالكم النفسيّة في خضمّ انشغالكم بتحقيق أهداف المنهج، وتذكّروا أنّنا ما زلنا في عين عاصفة "كورونا" وتبعاتها النفسيّة والاجتماعيّة، وهو ما يتطلّب دعماً نفسيّاً واجتماعيّاً دائماً لأطفالنا.
2- أنتم المصدر الأبرز الذي ينهل منه الطفل ثقته بنفسه، فكونوا عامل اطمئنان له، وهذا يتطلّب مستوى عالياً من الهدوء وضبط النفس، خاصّة في الأسابيع الأولى؛ لأنّ التجربة ما زالت جديدة على أطفالنا أيضاً.
3- بما أنّ الطفل يتعلّم بالمحاكاة والتقليد، فمن المفيد جدّاً أن يحاول الأهل الاشتراك بأيّ محاضرة تبثّ عبر (الأونلاين)، وأن يقوموا بتدوين الملاحظات والتعامل مع الدورة بجديّة؛ لأنّ ذلك سيدفع الطفل إلى تقليد ما فعله الأهل خلال المحاضرة، ومن جهة أخرى سيعطي شرعيّة وواقعيّة لهذا النمط؛ بسبب اعتماد الأهل له في تحصيل معارفهم.
4- لتجنّب القلق، عليكم التعامل مع هذه المرحلة بإيجابيّة، وعلى أنّها الخيار الوحيد والأفضل لأطفالنا.
5- لتجنّب عدم الانضباط، يُفضّل وضع جدول زمنيّ مرن مع الطفل يكون قادراً على الالتزام به بسهولة.
6- لتجنّب عدم التركيز، يجب تخصيص زاوية للدرس تكون مقرّاً دائماً له، على أن تكون بعيدة عن كلّ المشتّتات (تلفاز، لوحات، شبّاك،...)، ويُفضّل أن تكون بعيدة عن ضجيج الشارع، ومن الجيّد عدم استقبال الضيوف أثناء وقت بثّ الحصص.
7- لتجنّب التوتّر والقلق لدى التلميذ، لا تتحوّل إلى مراقب دائم، بل تذكّر أنّ دورك ينحصر في الدعم والمتابعة والتوجيه.
8- الالتفات إلى خصوصيّة كلّ مرحلة عمريّة لمعرفة طبيعة التدخّل مع أولادنا، مثلاً: من المتوقّع أن يكون تلاميذ الحلقة الثانية والثالثة هم الأقلّ قدرةً على التكيّف مع هذه المرحلة نظراً إلى طبيعة الأهداف في هذه الصفوف، وإلى اعتيادهم على نمط التعلّم الحضوريّ؛ لذا، يتطلّب العمل معهم جهداً أكبر لمساعدتهم في تنظيم الوقت ومتابعة ما يحصّلونه، وتقييم ما أنجزوه. من جهة أخرى، سيكون التعلّم عن بُعد أكثر مرونة بالنسبة إلى طلاب المرحلة الثانويّة والجامعيّة، نسبةً إلى وعيهم وثقتهم بخياراتهم وقدراتهم، في حين أنّ تلاميذ الروضات والحلقة الأولى سيحتاجون إلى تشجيع ودعم لوجستيّ ونفسيّ من وقت لآخر فقط، نظراً إلى مهارات الأطفال في هذا العمر، وقدرتهم على التكيّف مع المستجدّات.
•ظروف استثنائيّة
يجب أن لا ننسى أنّ أولادنا مرّوا بظروف استثنائيّة، وعاشوا ضغوطاً أكبر من أحلامهم الصغيرة، ومن المؤكّد أنّها انعكست على كثيرين منهم سلباً، وأثّرت على قدراتهم وتكيّفهم الاجتماعيّ والنفسيّ، لذا، فلنسعَ أن لا نكون سبباً إضافيّاً لضغوطاتهم وضغوطاتنا، ولنتعامل مع هذه التجربة بعين الأمل والتفاؤل والامتنان وعلى أنّها مُهمَّة مؤقّتة، وتحدٍّ يجب إنجازه بأقل الخسائر، فهذه التجربة لن تعرّض أطفالنا لخطر المرض أو الموت، لا سمح الله.
(*) اختصاصيّة في العلاج النفسيّ والاستشارات التربويّة والزوجيّة.
رابط التقرير في مجلة بقية الله
https://baqiatollah.net/article.php?id=10010