مجلة بقية الله - الشيخ د. محمّد حجازي
إنَّ التبدّل والتغيّر في مسارات الحياة البشريّة وأنماط عيشها، لا يُعدُّ أمراً جديداً أو طارئاً على المجتمعات الإنسانيّة؛ فقد شهدت الشعوب في مختلف حضاراتها وتنوّعاتها تحوّلات كبرى على مستوى السُّنن والابتلاءات والاختبارات العامّة، والتي فرضت بدورها أساليب جديدة تتماشى مع الوقائع المستجدّة.
قال تعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140).
•البلاء وتغيير نمط الحياة
من أبرز المتغيّرات التي تظهر آثارها على الناس، تغيّر نمط الحياة الاجتماعيّة ومظاهرها وتقاليدها وعاداتها؛ فثمّة اختلاف في طرق التواصل بين أبناء المجتمع عند حالات السرّاء والضرّاء، إذ تتغيّر السلوكات(1)، وفقاً لمقاييس السلامة المجتمعيّة، ويأخذ الناس عادةً اتّجاهاً جديداً للتكيّف مع أساليب جديدة لم يعتادوا عليها من ذي قبل.
فحينما يكون الإنسان منعَّماً بمظاهر العيش الرغيد، فإنّ ذلك ينعكس على حيويّة التفاعل مع القريب والبعيد، ويكون ذا أثر اجتماعيّ في التواصل الصحيّ. وفي حال طرأ بلاء عام كالجَدْبِ والمجاعة أو الأمراض والكوارث الطبيعيّة المهلكة، فإنَّ نمطيّات الحياة تتبدّل من مستوى إلى آخر، ويبدأ الناس بالبحث عن الوسائل البديلة للحفاظ على النفس البشريّة وتأمين استمرار عيشها بشروط متدنّية لا تشبه الظروف الاعتياديّة والطبيعيّة. قال تعالى: ﴿فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَاد فَلا إثْمَ عَليْهِ﴾ (البقرة: 173).
وهنا، تطرأ عناوين الضرورات والاستثناءات والأحكام الثانويّة والتأقلم بطريقة مرنة مع الموضوعات المحرجة، إذ تنخفض شروط العيش من المستوى الأعلى إلى المستوى المتوسّط أو دون ذلك.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 286)، وبقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 286)، والذي يلزم من عدم التكليف بما لا يطاق هو التأقلم مع الممكن الذي يحفظ حياة الإنسان من المهالك.
•"كورونا" وتبدّل الحياة
اليوم، وبعد الابتلاء العامّ بجائحة كورونا (Covid-19)، فقد دخلت المجتمعات البشريّة في مسار جديد يفرض عليها نمطاً جديداً من أساليب الحياة، وخصوصاً فيما يتعلّق بطرق التواصل الاجتماعيّ والمهنيّ والتعليميّ، وحتّى في كيفيّة التعبير عن الشعائر الدينيّة الجماعيّة، فلم يعد بالإمكان القيام بالنشاطات كافّة وفق الطرق الاعتياديّة السابقة؛ فقد تحوّلت إلى طرق عيش جديدة، إذ إنّ الإجراءات الوقائيّة جعلت الناس تعيش في ظلّ حالة من القيود النفسيّة والجسديّة بغية حماية النفس من الضرر المرضيّ، إذ أثبتت التجارب اليوميّة أنَّ إكمال وظائف الحياة بالأساليب والعادات السابقة، هو أمر في غاية الصعوبة لما فيه من ضرر كبير على الناس قاطبة.
•بين القبول والرفض
ممّا لا شكّ فيه، أنّ هذا الواقع المستجدّ أشعرنا بتغيّرات على مستوى التزاور بين ذوي الأرحام والأقارب، أو بين الأصدقاء، وحتّى على مستوى المصافحات في مختلف المناسبات واللقاءات؛ الأفراح والأتراح. وبما أنّنا مجتمع معتادٌ إلى حدّ كبير على التواصل اليوميّ والانصهار بالآخر والتجالس والمسامرات والسهرات الاجتماعيّة، -بل إنّ الوقت الذي نصرفه على النشاطات الاجتماعيّة في بلادنا هو أكثر ممّا نعطيه لأعمالنا المهنيّة-، فقد أدّى ذلك إلى إحداث صدمة نفسيّة على مستوى النمطيّات الجديدة، والتي بدأت آثارها بالظهور بعد أشهر عديدة من انتشار المرض؛ فهناك من تأقلم مع هذا الواقع الجديد، وهناك مَن رفضه ولم يلتزم بالإجراءات الوقائيّة حتّى ولو كان ذلك على حساب صحّته وصحّة الآخرين.
وفي الوقت الذي يجب فيه الالتزام بإجراءت الوقاية، يجب أيضاً أن لا يتحوّل التباعد الاجتماعيّ إلى ذريعة تبعد المسلم عن واجباته وهموم مجتمعه وعائلته أيضاً، فإذا فرض علينا عدم المشاركة في الجنائز وتشييع أموات المؤمنين، فلا أقلّه من التواصل الآمن، والاطمئنان على الأحوال، وتفقّد الأهل والعائلة، وتفقّد أحوال الجيران وأبناء القرية الواحدة في ظلّ الجائحة وتداعياتها، وما تسبّبت به من انقطاع بعض الأعمال؛ فهي فرصة للمؤازرة الاجتماعيّة والأعمال التطوّعيّة التي تساهم في الخروج من هذا البلاء بفوز وأجر عظيم.
•تغيّرات أسريّة
من الملاحظ أنَّ الذي تأثّر بشكل كبير في مثل هذه الحالات الاستثنائيّة هو العلاقات الأسريّة؛ إذ تغيّرت عاداتها اليوميّة، وأصبح من الصعوبة بمكان إيفاء حقوق أفراد الأسرة، وأضحَت البدائل في طرق العيش أو التحصيل الدراسيّ في المدارس أو الجامعات أمراً غير مألوف، ما زَادَ في المشاكل والتوتّرات وبعض حالات الضغط النفسيّ أو الكآبة.
ولا يخفى دور الدعم الاجتماعيّ والنفسيّ والمعنويّ في مناعة الأفراد، وإدخال السرور على قلب المؤمن؛ لذلك يجب الحرص على عدم قطع صلة الرحم، وهجر وجفاف العلاقات العائليّة، أو بين أبناء القرية الواحدة، بحيث يبقى التواصل ثابتاً، والمتغيّر هو طرق هذا التواصل فقط.
•لتغيير أفضل
بعد عرض هذا الواقع الجديد، لا بدّ من طرح المعالجات التي تساعد في تنمية القدرات البشريّة في مثل هذه الظروف الصعبة، والذي نجده ناجعاً ومفيداً في أمور عديدة، نذكر أهمّها:
1- التأقلم النفسيّ والفكريّ مع فكرة الابتلاء والاختبار: وأنَّ الله تعالى يختبر عباده في كلّ أمّة من الأمم، ومن الضروريّ جدّاً الاستفادة من القدرات الإيمانيّة لتكون سلاحاً روحيّاً لمواجهة المصاعب. قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2).
2- التعويض عن طرق البدائل المتوفّرة بين أيدينا: فإذا فرض علينا المرض طريقة جديدة من الاتّصال والتواصل الاجتماعيّ داخل العائلة الواحدة أو خارجها، فمن الضروريّ التعويض عن ذلك باستعمال الوسائل الإلكترونيّة المتاحة كافّة والمسخّرة لذلك.
3- تكثيف الجهود الأسريّة للتعاون والتعاضد: للتخفيف عن بعضهم بعضاً بالمساعدة وتقديم الحلول، ومواكبة تدريس الأولاد عن بُعد بطريقة مرنة بعيداً عن الغضب والنفور، خصوصاً أنّنا نقدّر مسؤوليّة الأمّهات في هذا الإطار.
4- الخروج إلى أماكن شبه خالية من الناس: اعتماد بعض أيّام الأسبوع للخروج إلى شواطئ البحار، أو المناطق الجبليّة أو المنتزهات ونحو ذلك...
5- عدم التضجّر: ضرورة التأقلم مع هذا النمط الجديد من الحياة وعدم التضجّر منه، والتفكّر بشكل دائم في أحوال الدنيا، وأنّ الدهر يومان: فيوم لنا ويوم علينا، ولا يوجد شيء ثابت على حالة واحدة إلّا الذات الإلهيّة، وأنّ البلاء له نهاية. قال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً﴾ (الشرح: 5).
6- ابتكار طرق جديدة للترفيه والتسلية داخل البيت الواحد: وتنشيط القراءة والمطالعة، وتفعيل جلسات الحوار البنّاء، وليس النقاش الذي يوصل إلى أذيّة الآخر وإظهار عيوبه!
7- محاولة اكتشاف المواهب والمهارات عند الأولاد: بالاستفادة من برامج الإنترنت لتطوير القدرات الشخصيّة وتحسينها وإبرازها إلى الواقع.
8- التفرّغ لحفظ القرآن الكريم: وبخاصّة للأولاد؛ إذ إنّهم يملكون وقتاً كافياً للجمع بين اللعب والدرس، وحفظ القرآن. وربّ ضارة نافعة؛ فقد يكون الانعزال القسريّ فرصة ثمينة لاستغلال مثل هذه البرامج.
9- إظهار العاطفة للأبناء: في هذا الظرف الحسّاس، الذي تخاف الأمّ فيه أحياناً من معانقة طفلها، والوالد من مسامرة وملاعبة أبنائه خوفاً عليهم من احتمال أن يحملا عدوى ما لا يعلمان بها، فينقلاها إليهم دون أن يدريا، وفي ظلّ أمّ وأب كبيرين في السنّ، خاف أبناؤهما عليهما فاجتنبا القرب منهما. ولكي لا نعيش هذا الفقد، علينا إظهار مشاعرنا وعواطفنا بطرق سليمة وآمنة على من نحب.
•وإن طال الزمن
وأخيراً، علينا الاتّعاظ والتعلّم من التجارب البشريّة السابقة؛ فمهما بلغت الابتلاءات من درجاتها الصعبة، فإنّها ستزول في نهاية الأمر، والذي صبر على آلامها، سيخرج منها منتصراً بإذنه تعالى.
قال الإمام عليّ عليه السلام: "لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمن"(2). والحمد لله ربّ العالمين.
رابط التقرير في مجلة بقية الله