(جريدة الأخبار اللبنانية)
ربما كان العالم بحاجة لجائحة «كورونا» ليكتشف أنه واحد فعلاً، وأن قضاياه واحدة، وأن عليه أن يغيّر جذرياً في السياسات التي يتّبعها. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أصبحنا ندرك علاقة الصحة بقضايا الغذاء والبيئة وبقطاعات النقل والطاقة والمياه والتربية والثقافة والصراعات الاقتصادية والاجتماعية… وبالتالي، بات لزاماً أن نطوّر و«نحوّر» كل الأنظمة التي عرفناها من أجل التكيّف مع هذه الفيروسات المتطوّرة والمتحوّرة. ولعل أول نماذج الترابط هو العلاقة، غير المستجدّة، بين الأنظمة الصحية والغذائية. فهل تتسبّب الجائحة في أزمة غذاء لناحية الكمية والنوعية؟ وهل تكون العودة إلى النظام الغذائي القديم مدخلاً لإعادة التوازن وللحماية من فيروسات قادمة ويرجّح أنها ستكون أكثر فتكاً؟
الدرس الأول الذي يُفترض تعلّمه من جائحة «كورونا» التي فرضت الإقفال شبه التام لأكثر من سنة أنها لن تكون الجائحة الأخيرة. أما الدرس الثاني فهو أن الجائحة التي كانت أقوى من سابقاتها لن تكون الأقوى مطلقاً، وأن الآتي أعظم بحسب تطور الفيروسات التي عرفناها سابقاً وتحوّرها. لذلك، بات لزاماً علينا أن نعدّل ونحوّر في طريقة حياتنا، أنظمة وشعوباً وأفراداً، من أجل التأقلم معها.
من الدروس الأساسية التي يُفترض تعلّمها، أيضاً، أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الصحة وقضايا البيئة والغذاء والمناخ وسياسات الطاقة والنقل، وبين الأمن الصحّي والأمن الغذائي والبيئي. وهذا ما كان يُفترض إدراكه منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، مع ظهور دراسات دولية تؤكّد أن «التنمية»، إذا لم تأخذ في الاعتبار متطلّبات استدامة الموارد، يمكن أن تصبح مدمّرة. رغم ذلك، تُرك العالم للتجار يتحكّمون بسياساته وتشريعاته عبر دعمهم إيصال سياسيين إلى مراكز القرار وتمويل حملاتهم الانتخابية.
من دروس الجائحة، أيضاً، أن الإقفال قد يعني وقف إمدادات الغذاء لأنه يحول دون نقل الغذاء وانتقال العمال. كما أن منع الاختلاط وإقفال المطاعم يعني ضرورة تغيير أنواع الزراعات وأحجامها. فالزراعات التي كانت مطلوبة في المطاعم والتي دفعت المزارعين إلى قطع أشجار معمّرة لصالح زراعة أشجار ونباتات ومنتجات مطلوبة للتصدير أو في المطاعم، خرّبت كثيراً في الأنظمة الزراعية التقليدية التي كانت تتمتّع بصفة «الاستدامة».
في لبنان، مثلاً، كان يمكن توقع الكارثة يوم أُنشئت إهراءات المرفأ (لا يوم تدميرها) كرمز لتحوّلنا إلى بلد مستورد لا منتج، ويوم تحوّل الزيتون إلى شجرة للزينة يُباع المعمّر منها في المشاتل الكبيرة! حصل ذلك بعدما زالت الحماية عن هذه الشجرة الدهرية أمام مضاربات التجار عبر استيراد الزيوت المهدرجة (أو تركيبها محلياً) وفتح الأبواب على مصاريعها أمام شتى أنواع الزيوت. إذ أن وعود التنمية (على الطريقة الغربية) بزيادة الإنتاجية وتغيير أنواع المحاصيل وحلول الأشجار والبذور المنتجة سنوياً مكان تلك المعمّرة (الزيتون والكرمة والتين والجوز واللوز...)، أبهرت الجميع، وكانت خطوة في المجهول، لا سيما عندما تبيّن أنها لا تعيش من دون أسمدة ومبيدات كيميائية يجب استيرادها دائماً بالعملات الصعبة، وتتسبّب في تلويث التربة والمياه والأغذية نفسها.
لطالما كانت العلاقة واضحة بين سلامة الغذاء والصحة، ودورها في بناء جسم سليم وجهاز مناعي قويّ يحارب الفيروسات على أنواعها وبينها «كورونا». إلّا أنّ أثر الجائحة الحالية على إمدادات الغذاء والأمن الغذائي أمر جديد لم تُدرَك أهميته إلا مع الإقفال ووقف إمدادات الغذاء وانتقال العمال الزراعيين والعاملين في القطاع، إضافة إلى إجراءات العزل التي فُرضت داخل الدول وبينها. إذ أثّرت سلباً على انتقال البضائع بين الدول أو بين القرى والمدن في البلد نفسه، ما حوّل أنواعاً كثيرة من الفواكه والخضار إلى نفايات بدل أن تذهب إلى الأسواق، وأدّى إلى تلف المحاصيل وفسادها بعدما حال الإقفال دون وصول العمال الموسميين إلى الحقول والمزارع. وتؤكد تقارير حديثة لمنظمة الزراعة والأغذية الدولية (فاو) أن أزمة «كورونا» تسبّبت بمشاكل كساد أكبر من تلك التي تسببت بها موجات الجفاف حول العالم. صحيح أن المخزون العالمي من الذُّرة، مثلاً، زاد عام 2020 بأكثر من ضعف ما كان عليه عامَي 2007 و2008، عندما تسبّب الجفاف في نقص الغذاء في البلدان الرئيسة المصدِّرة له ما أدى إلى أزمة غذاء عالمية. كما زاد المخزون من الأرز وفول الصويا في الفترة نفسها 40% و80% على التوالي. لكن المفاجأة أن هذا المحصول الوافر لم يساعد على تجنّب نقص الغذاء. إذ حالت إجراءات الإقفال دون نقل محاصيل الحبوب من بلدان إنتاجها إلى حيث تشتدّ الحاجة إليها!
والوجه الآخر لهذه الأزمة يتمثّل برفع الأسعار بسبب نقص المواد. وتتوقع دراسات «فاو» أن ترتفع أسعار مواد اساسية، كالقمح والأرز، بين 8% و25% مقارنة بأسعار ما قبل الجائحة، إما بسبب صعوبة الانتقال أو لقلة الإنتاج أو لاهتمام الدول بأولوية توزيع المحاصيل على السكان المحليين بدل التصدير. أضف إلى ذلك كله تراجع جودة الأنظمة الغذائية ونوعية الغذاء وتعذّر الوصول إلى الطعام الطازج.
التوقعات أن الجائحة ستفرض، عاجلاً أم آجلاً، إعادة النظر في العولمة بوصفها تمثّل رأسمالية السوق الحرة، وبـ«الحدود المفتوحة» (أو ما يسمى «حرية التجارة) التي كانت دائماً لمصلحة البلدان الصناعية والمنتجة، والتي مكّنت الفيروس من الانتشار مع سهولة انتقال البضائع والأشخاص. وهذا سيعني تغييرات جوهرية في قواعد التجارة وفي السياسات الزراعية والضرائبية والاقتصادية عموماً، نحو العودة إلى الزراعات التقليدية التي كانت لها صفة الديمومة و«البعلية»، بمعنى عدم حاجتها إلى استيراد المبيدات والأسمدة والبذور المعدّلة جينياً وأعلاف الحيوانات والتكنولوجيا المصاحبة والخبراء...إلخ.
إعادة النظر بـ«الحدود المفتوحة» لا تعني اعتماد سياسات انعزالية وتعني فتح علاقات زراعية شفافة مع سوريا
وحتى لا نذهب بعيداً في لبنان في الاعتقاد بإمكان الوصول إلى الاكتفاء الذاتي عبر اعتماد سياسات انعزالية، تنبغي الإشارة إلى أن إعادة النظر هذه تستوجب الاهتمام، مثلاً، بضبط الحدود البرية وفتح علاقات زراعية عادلة وشفافة مع سوريا لضمان استمرار الإمدادات الغذائية مهما كانت الظروف.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن إعادة النظر في العولمة لا تعني التخلي عن العالمية، وإنما إعادة إحياء ما يُسمى «النظرة العامة والاستراتيجية»، وإدراك الارتباط الوثيق بين إنتاج الغذاء وبين المناخ والتربة والمياه والصحة وتعداد السكان وتوزّعهم... إلخ، والتخلّي عن الأفكار الاختزالية والتخصصية لمصلحة إعادة الاعتبار إلى الأفكار والرؤى الاستراتيجية.
ومن المهم أيضاً إعادة توجيه الدراسات الزراعية لزيادة بعض الإمدادات الغذائية أو استبدالها، عبر تحليل تاريخ الزراعات في لبنان ودول المنطقة، وعلاقة الأنظمة الزراعية بالأنظمة الإيكولوجية لناحية ضمان ديمومة الموارد مع توفر الأراضي والمياه، ودرس أنواع التربة، وحفظ العادات الزراعية القديمة وزراعة الأغذية الأساسية وتلك التي يمكن تجفيفها وتخزينها. مع إيلاء اهتمام أكبر لصغار مالكي الأراضي الزراعية وصغار المزارعين، والعمال المهاجرين الذين يشكّلون دعامة أساسية للزراعة، إضافة إلى إعادة إحياء التعاونيات وأسواق التبادل الحرّ من دون وسيط.