نقلا عن الجزيرة نت - أيوب الريمي
مخطئ من كان يعتقد أن العلاقات بين الأوروبيين والبريطانيين ستعود لصفوها، بعد التخلص من معضلة البريكست. فما كادت معركة الانفصال بين الطرفين تضع أوزارها حتى انطلقت شرارة حرب جديدة، سببها هذه المرة لقاح فيروس كورونا.
وبعيدا عن تنميق الكلام الدبلوماسي عن الصداقة، انتقل الطرفان لمعركة كسر عظام بهدف تأمين حاجياتهم من لقاح "أسترازينيكا-أكسفورد" (AstraZeneca-Oxford) بعد أن أعلن الاتحاد الأوروبي اقترابه من سن تشريع يمنع تصدير اللقاحات خارج دول الاتحاد إلا بعد أن يضمن التكتل حاجاته أولا، خصوصا لقاح "فايزر" الذي يتم تصنيعه أساسا في بلجيكا، وعقدت بريطانيا صفقة لشراء 40 مليون جرعة منه.
التحرك الأوروبي غير المسبوق، يأتي كرد على إعلان الشركة البريطانية السويدية تأخر حصول الاتحاد على حصته من جرعات اللقاح، وكان من المتوقع أن تصل 80 مليون جرعة بحلول نهاية مارس/آذار، إلا أن الشركة قالت إنها لن توفر سوى 25 مليونا بحلول هذا الموعد.
تبرر أسترازينيكا هذا التأخير بمشاكل في الإنتاج، وهو ما لم يقنع قادة الاتحاد الذين يتابعون كيف تسير المملكة المتحدة بسرعة قصوى في برنامج التطعيم، والذي بلغ حاليا حجمه 10% من المواطنين (7.5 ملايين شخص) في حين لم تصل نسب التطعيم بدول الاتحاد سوى 5% في أفضل الأحوال.
ما أسباب الغضب الأوروبي؟
يمكن إيجاز أسباب الغضب الأوروبي من أسترازينيكا، ومن خلفها المملكة المتحدة، في 4 أسباب، أولها في كون التكتل الأوروبي يقول إنه أدى الأموال مقدما للشركة حتى تتمكن من تعزيز طاقتها الإنتاجية ولتجنب كل أنواع الصعاب في الإمداد باللقاح، حيث استثمر 350 مليون دولار تقريبا في لقاح الشركة للحصول على 100 مليون جرعة بالربع الأول من العام الحالي.
أما السبب الثاني فهو سياسي نفسي، حيث تسود حالة من الغضب بين الدول الأوروبية وهم يشاهدون كيف أن المملكة المتحدة -التي انفصلت عنهم- تتوفر على جرعات كافية من اللقاحات، ويعتبر الأوروبيون أن بريطانيا تحصل على معاملة تفضيلية من شركات اللقاح مقارنة ببقية دول الاتحاد.
وهذا ما عبرت عنه مسؤولة الصحة بالاتحاد ستيلا كيرياكيدس التي رفضت منطق "من يصل أولا تتم خدمته أولا"، معتبرة أن المنطق "يمكن تطبيقه في بقالة الحي وليس عندما يتم التعامل مع اللقاح" وذلك للرد على أسترازينيكا التي بررت تقديمها اللقاح أولا للمملكة المتحدة، بكون الأخيرة وقعت عقد شراء اللقاح قبل الأوروبيين بـ 3 أشهر.
والسبب الثالث هو حالة الاحتقان والضغط الشعبي لدى دول الاتحاد، حيث يظهر العاجز حتى الآن عن تأمين الاحتياجات من اللقاح، مما يعني التأخر في تحقيق المناعة الجماعية، وهو ما يشكل ضربة جديدة لصورة الاتحاد باعتباره مؤسسة تأسست لتحقيق الأفضل للأوروبيين.
وأخيرا، تراود الأوروبيين الكثير من الشكوك حول أن اللقاحات -التي يتم تصنيعها داخل أراضيهم وخصوصا في بلجيكا- يتم توجيهها لبريطانيا على حساب بقية الدول الأوروبية، وهو ما دفعهم لإيفاد لجنة تحقيق خاصة لمصنع اللقاحات قرب العاصمة بروكسل لمعرفة إن كانت هناك فعلا مشاكل في الإنتاج أم أن كل الجرعات يتم توجيهها لبريطانيا.
بريطانيا أولا
لا يمكن إغفال الجانب السياسي في حرب اللقاحات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وهذا ما يظهر جليا من خلال إصرار وزير الصحة البريطاني مات هانكوك دائما على التذكير بأن بلاده لقحت حاليا ضعف ما لقحته الدول الأوروبية مجتمعة.
وهناك غاية أخرى تريد الحكومة البريطانية إدراكها، وهي الترويج لفكرة جني ثمار البريكست، والقول إن البلاد أصبحت أكثر تحررا في اتخاذ قراراتها والدفاع عن مصالحها بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك لا يريد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إثارة المزيد من غضب الأوروبيين، فتحدث بلغة دبلوماسية أمام نواب بلاده عند إثارة معركة اللقاحات، معتبرا أن إنتاج اللقاح ثمرة تعاون دولي وتوزيعه سيكون كذلك ثمرة هذا التعاون، معربا عن ثقته في استمرار تدفق اللقاح لبلاده حسب ما هو مخطط له.
لكن الواقع أصدق إنباء من الخطاب الدبلوماسي، والذي يخبر أن بريطانيا جد صارمة في هذا الموضوع، وترفض أن يتم تصدير أي جرعة خارج أراضيها من مصنعي "أكسفورد" و"ستافورد شاير" حتى تؤمن لنفسها 100 مليون جرعة من لقاح أسترازينيكا.
ولا تدخر الحكومة أي جهد في تأمين حاجياتها من اللقاح، إذ تبين أن صفقتها مع أسترازينيكا تقوم على توفير مليوني جرعة أسبوعيا، وبعدها يمكن التوجه نحو التصدير للآخرين.
تبرر هذا التشدد بكونها كانت أكثر بلد أوروبي استثمر في اللقاحات، وكانت الأولى التي وقعت العقود مع شركات اللقاح.
وببرودة الدم المعهودة لدى البريطانيين، يواصل جونسون تحاشي تصعيد خطابه مع الأوروبيين، رغم أنه يعلم أنه في حال قرر الأوروبيون فعلا منع تصدير اللقاحات خارج الاتحاد، فإن هذا سيؤدي لتأخير وصول المملكة المتحدة للمناعة الجماعية بحوالي 3 أشهر، حسب مركز الدراسات "إيز فينيتي" وهذا قد يربك كل حسابات الحكومة البريطانية.
من جانب آخر تحدث نواب بريطانيون لصحيفة نيويورك تايمز عما أسموه "الابتزاز" الأوروبي لبلدهم، ويرى هؤلاء أنه على الأوروبيين تحميل مسؤولية فشلهم في عقد الصفقات مع شركات اللقاح.
وكمثال على هذا "الفشل" فإن أسترازينيكا تقول للأوروبيين إن تعاقدها معهم يقضي بالقيام "بالجهود المطلوبة" لتوفير حاجيات التكتل من اللقاح، وهذه الجهود حاليا معرقلة بسبب مشاكل في سلسلة الإنتاج.
ولا يخفى الطابع السياسي لهذه المعركة التي تذكر بحرب الكمامات مع بداية انتشار الوباء، ولكن هذه المرة سيكون لها أبعاد أكبر، فإنتاج اللقاح أصعب وأعقد وأكثر كلفة من إنتاج الكمامة.