إيهاب شوقي
استمراراً للتّمييز الفاضح وغير الأخلاقي في توزيع اللقاحات الخاصّة بفيروس كورونا عالمياً، تتوالى التّصريحات والتّقارير التي تكشف أبعاداً أُخرى تتعلّق بنظرة الغرب للدّول الفقيرة، سواء على مستوى الحكومات والمسؤولين، وأيضاً على مستوى المؤسّسات، بما فيها الصحية ومؤسّسات المجتمع المدني المتعاطفة مع الفقراء.
وقبل الخوض في بعض التّفاصيل الموضحة لما نريد قوله، فمن الواجب هنا توضيح أصل القضية وتوصيفها وبيان ماهيّتها:
فالقضية باختصار، أنّنا أمام جائحة عالمية إنسانية، وهي جائحة تتعلّق بوباء ينتقل بالعدوى ولا يفرّق بين غني وفقير، والبُعد الإنساني والأخلاقي يفرض عدالة التّوزيع، والبُعد النّفعي يفرض أيضاً هذه العدالة من منطلق أنّ حماية الفقير من المرض هي حماية للغني أيضاً، لأنّها تدرأ إنتقال المرض بالعدوى إليه، وأنّ الإحتكاك والتّبادل التّجاري والإستثمارات وكافّة المجالات الاقتصادية تحتّم هذا الإحتكاك، ولن تستقيم الحياة بنمط الإغلاق والإنكفاء على الذات أو الإستمرار في ممارسة الأنشطة عن بُعد عن طريق شبكة المعلومات الدولية، والتي لا تصلح في مجالات عديدة إلّا بشكلٍ مؤقّت.
كما أنّ هناك أبعاداً أخلاقية ومعنوية متعلّقة بمهنة الطّب وبالبحث العلمي، شكّلت وضعاً إستثنائياً لهما، باعتبارهما في خدمة الإنسانية، ممّا رفعهما في الوجدان الجمعي للشعوب، وأي مساس بهذا البُعد الإنساني، سيلقي بظلال كثيفة على هاتين المهنتين ويحطّ من قدرهما باعتبارهما في خدمة التجارة والمال.
هنا نحن أمام قضية مركّبة، تتعلّق بالعلاقات الإنسانية بين شعوب العالم، وبالنّظرة لمهن طالما قدّستها واحترمتها الشعوب.
ومن حيث الممارسة العملية وفي إختبار فارق مثل جائحة فيروس كوفيد-19، وجدنا تمييزاً يمكن وصفه بالفاضح لهذا النّظام العالمي، ومع تواتر التّقارير والأرقام، يزداد المشهد قتامة، ومع توالي التّصريحات، يزداد إنكشاف طريقة التّفكير والتّعاطي والتي تكشف مكنونات الغرب والمسكوت عنه طيلة العقود الماضية وإهدار محاولاته للتّجميل ومواراة السوءات.
ففي أحدث التقارير التي بثّتها شبكة بي بي سي، يقول التقرير، أنّه، من المنتظر أن يتعهّد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بالتّبرع بمعظم ما سيفيض عن حاجة بلاده من جرعات اللقاح ضدّ فيروس كورونا للدول الفقيرة، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد حثّ الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على إرسال ما يصل إلى 5 بالمئة من إمداداتها من اللّقاح إلى الدول الأفقر.
وهنا نحن بصدد صدقة أو إعطاء الفضلات للدول الفقيرة، وهو أمر مهين بلحاظ أنّ الفيروس منشأه الدول الغنية، وكانت هذه الدول الفقيرة ضحية له، ولم ينشأ مثلاً عن إهمال أو عدم وعي أو بسبب قلّة النظافة او تردّي الأوضاع الصحية والمجتمعية، وبالتالي يحاول الغرب حماية نفسه منه ومعالجة أثار وباء إنتقل من الفقراء إليه!
وبلحاظ أيضاً أنّ الحلّ الفردي في جائحة عالمية لن يغني شيئاً، لأنّ وجود فيروس سريع الإنتشار مثل كورونا في بعض دول أو حتّى دولة واحدة، يعني أنّ العالم كله ليس بمنأى عن انتشاره مجدداِ!
وتستمر التقارير في كشف أنّه حتّى الآن، أعطيت الكمية الكبرى من اللقاحات، على اختلاف مصنّعيها، لسكان البلدان الغنية، وأنّ هذه البلدان اشترت لقاحات تفوق احتياجاتها.
فقد طلبت المملكة المتحدة أكثر من 400 مليون جرعة من عدّة أنواع من اللّقاحات، لذلك سيكون هناك فائض عن حاجة البلد، فور تلقيح كلّ الأشخاص البالغين في بريطانيا، علماً أنّ عدد سكان بريطانيا أقل من 68 مليونا بقليل.
ويقول نشطاء في مجال مناهضة الفقر إنّ بريطانيا لا تفعل ما يكفي بخصوص العدالة في التوزيع.
وتشرح نعومي غريملي، مراسلة بي بي سي للصحة العالمية، هذه الإشكالية، وتقول إنّه أثناء "التّدافع العالمي" لتأمين لقاحات ضدّ كوفيد-19، انتهى الأمر بكثير من الدول الغنية، التي موّلت الكثير من الأبحاث، بشراء كمية من الإمدادات تفوق احتياجاتها.
وتُضيف غريملي أنّ أرقاماً جديدة صادرة عن حملة لمكافحة الفقر اسمها ONE campaign، تكشف أنّ أستراليا وكندا واليابان وبريطانيا والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي قد أمّنت بالفعل أكثر من 3 مليارات جرعة، أي أنّ هناك 1.2 مليار جرعة تزيد عن حاجتها لمنح كل سكان هذه الدول جرعتين.
والمفارقة، أنّ هناك 130 دولة تقريباً لم تتمكّن من بَدء التلقيح على الإطلاق، ولا يزال العاملون في مجال الرعاية الصحية فيها معرّضين لخطر كبير. وعلى الجانب الآخر، يبدو أنّ العاطفة التي حرّكت ماكرون وميركل للحديث عن الدول الفقيرة، لم تكن إنسانية!
فوفقاً لماكرون، أيّدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مبادرة أوروبية لمشاركة اللقاحات، مضيفاً أنّه يأمل أيضا في الحصول على دعم الولايات المتحدة.
وقال إنه في غياب مثل هذا المخطّط، فإنّ كلًّا من الصين وروسيا تملآن الفجوة "مما يمهّد الطريق لحرب على النفوذ من خلال اللقاحات".
وبالتالي فهي عاطفة سياسية، برغم ارتدائها ثوباً إنسانياً، وحتى سيقت في شكلٍ مهين بالحديث عن الفوائض والفضلات!
وهنا تنبغي الإشارة إلى الدول الغنية المسلمة التي تشتري الأسلحة لتقصف بها دولا مسلمة والتي تسعى للتطبيع مع العدو الإسرائيلي الذي يمنع وصول اللقاحات للفلسطينيين.
ويُمكنُنا هنا الإشارة فقط لبعض التقارير التي تقول أنّ كميات كبيرة من أموال العالم الإسلامي تستثمر في العالم المتقدّم، وتقدّر بما لا يقلّ عن 700 مليار دولار.
وقد وصف "فيلي برانت" التّدفق السنوي للأموال من البلدان المدينة "النامية" إلى البلدان الدائنة "المتقدّمة" بقوله: إنّها بمثابة نقل دم عكسية من المريض إلى الطبيب!