إيهاب شوقي
كلّما استمرّ الوباء دون أفق لإنقضائه، كلّما تعمّقت الأزمات وبرزت التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والثّقافية، بحكم طبيعة قانون الفرز والغربلة، وكلّما استجدّت التّحوّرات التي تعرقل إنجازات مواجهة الوباء، كلّما برزت معها تحوّرات جديدة على السّاحة السياسية، بحيث تشكّل مساراً موازياً لوباء تمّ تسييسه منذ لحظاته الأولى.
فمنذ المنشأ، تمّ تبادل الإتّهامات وقذف التّهم السياسية بين القوى الكبرى، وبرزت نظريّات للمؤامرة توحي بأنّ الوباء مصنوع ومتعمّد للتّوظيف في الصراع السياسي والاقتصادي بين أمريكا والصين، ثمّ تحوّل التّسييس للسّباق في اللّقاحات والدّعايات والدّعايات المضادّة، للتأثير على سمعة التّقدم العلمي والتّكنولوجي بين الغرب والشّرق من جهة، وللتّنافس الاقتصادي حول مبيعات اللّقاحات وأرباحها من جهة أخرى.
ثمّ برز الوجه القبيح للسياسة في توزيع اللّقاحات واحتكار الجرعات ووصولها لدول وحجبها عن الأخرى بما فيها دول تستخدم أراضيها كمصانع للّقاحات دون توفّر أدنى جرعات لمواطنيها كالنّموذج الهندي.
وحالياً، يبدو أنّه قد حمي وطيس المعارك السياسية، ليصبح الوجه السياسي للوباء هو آخر والغالب عن الوجه الطبّي والعلمي للمرض، حيث تبدو علامات تؤشّر إلى فقدان الشعوب للثّقة في اللّقاحات وجدواها، وبدا هناك نوع من الإهمال تقارير منظّمة الصحّة العالمية، وعدم إكتراث بالتّقارير رغم الإعتراف بحقيقة وجود الوباء.
وهي حالة من فقدان الثّقة المجتمعية نتجت عن الإفراط في التّوظيف السياسي للوباء. وأحدث المشاهد السياسية التي يمكن رصدها تشي بهذه الحالة، ويشكّل التّعاطي الرّسمي معها أيضًا زيادة لتعميقها بدلاً من التّخفيف منها:
فعلى سبيل المثال، تظاهر عشرات آلاف الفرنسيين للأسبوع السادس على التّوالي احتجاجًا على سياسة التّطعيم ضدّ كورونا التي تنتهجها الحكومة، وسط خشية جماعات حقوق الإنسان من المشاعر (المعادية للسامية) في الحركة الإحتجاجية!
وذلك لأنّ الدّعوة إلى 200 تظاهرة مختلفة في أنحاء البلاد تمّت للتّنديد بنظام "الشهادة الصحية" الذي أعلنه الرئيس إيمانويل ماكرون، والذي يرى فيه البعض "تقييدًا بشكلٍ غير منصف لحقوق غير المطعّمين".
ومصدر الخشية من (معاداة السامية) هنا هو أنّ حركة الإحتجاج ضدّ الشهادة الصحية جمعت بين منظّري المؤامرة ومناهضي التّطعيم وأعضاء سابقين في حركة "السترات الصفر" المناهضة للحكومة، فضلًا عن المتخوّفين من نظام يؤدي بشكلٍ غير عادل إلى تكوين مجتمع من مستوَيين، وتميّزت الحركة الإحتجاجية منذ البَداية باستخدام شعارات ورموز ندّدت بها جماعات يهودية ونشطاء مناهضين للعنصرية، فقد وضع بعض المتظاهرين نجوماً صفراء على ملابسهم تشبه تلك التي أجبر النّظام النّازي اليهود على وضعها خلال الحرب العالمية الثانية.
كما تمّ تصوير آخرين وهم يرفعون لافتات كُتب عليها كلمة "من؟"، وهي إشارة تدلّ على اليهود المتّهمين بنشر الدعاية ضدّ كورونا عبر وسائل الإعلام وتحقيق أرباح من صناعة اللّقاحات في الوقت نفسه.
وعلى صعيد آخر، وفي الولايات المتّحدة، فقد حدّد وزير القوات البحرية الأمريكي الجديد كارلوس ديل تورو التّحديات الرئيسية الماثلة أمام الأسطول الأمريكي، ووضع التّخوف من انتشار كورونا في ذيل التّحديات.
وقال في رسالة إلى عناصر القوات البحرية والموظفين المدنيين فيها، إنّ أكبر تهديد تمثّله الصين، حيث "تهدف بكين إلى تقويض قوّتنا العسكرية. ونحن لن نسمح بحدوث ذلك"، حسب بيانه، وعن التّحدي الثاني، أشار الوزير إلى ضرورة ضمان التنوع الثقافي، مشددًا على أنّ ممثّلي كافّة الأعراق والأديان والقوميات يجب التّعامل معهم بقدر متساوٍ من الإحترام، والتّحدي الثالث هو التّغير المناخي، بينما دعا ديل تورو أفراد القوات البحرية أيضًا للتّطعيم ضدّ فيروس كورونا، مشيرًا إلى أنّ الفيروس يقلّص القدرات القتالية. وهنا لا يتناسب هذا التّرتيب مع مستوى الخطر الذي ترفعه الولايات المتحدة وتحاول تسييس الوباء وفقا له!
وعلى صعيد آخر، برزت معركة سياسية أوروبية روسية، حيث أعلن ألكسندر غروشكو، نائب وزير الخارجية الروسي، أنّ المشاورات بين روسيا والإتحاد الأوروبي بشأن الإعتراف المتبادل بـ "شهادات كوفيد" تتقدّم ببطء لكن موسكو تأمل في نجاحها. وقال غروشكو في تصريحات لصحيفة "كومرسانت" الروسية: "المفاوضات تتقدّم بشكلٍ متعثّر. مع ذلك فإنّنا نعوّل على أن تجد مشكلة الإعتراف المتبادل تسويتها سريعًا - بالطّبع إذا لم تتدخل عوامل سياسية في العملية".
وأشار الدبلوماسي إلى أنّ من مصلحة الجميع ألّا يواجه مواطنو روسيا والإتحاد الأوروبي مشكلات إضافية أثناء زياراتهم المتبادلة وأن يتمكّن السيّاح من إرتياد المتاحف والمعارض والمسارح والمطاعم بكلّ حرية.
وأشار غروشكو إلى أنّ موسكو تتمنّى أن تتمّ عملية الإعتراف المتبادل لـ "شهادات كوفيد" الرقمية في منأى عن أي اعتبارات سياسية، كما هو حال موضوع ترخيص اللّقاحات، حيث "يلعب عامل الكبح السياسي من قبل الإتحاد الأوروبي للأسف دورًا سلبيا واضحًا"، بحسب قول الدبلوماسي.
هنا نحن إزاء وباء سياسي مواز للوباء الصحي، وكلاهما يؤثر في الآخر ويعيق القضاء عليه، والأخطر أنّه يلقي بظلال من البلبلة وفقدان الثّقة لدى الشعوب، والتي هي العامل الأوّل في تفشي الوباء أو محاصرته، ومع كلّ تحوّر للفيروس نجد تحوّرات للتّوظيف السياسي، وهنا تتّجه الأمور إلى دوائر مغلقة تقع الشعوب ضحيتها الأولى.