إيهاب شوقي
تظهر على سطح الأحداث مشكلة جديدة تتعلّق بلُقاحات فيروس كوفيد-19، وهذه المشكلة لا تتعلّق بنقص اللّقاحات ولا بالعزوف عنها، وإنّما تتعلّق بقرارات الإلزام بها، ووضع تشريعات أو فرض إجراءات تُجبر المواطنين على تلقّيها.
وجوهر المُشكلة هنا، هو حريّة اختيار الفرد وحريّة تقرير مصيره، ودخلت الجدالات في هذا الشّأن، فيما يُشبه حلقة مفرغة، وطريقاً مسدوداً، حيث يرى فريق أنّ الفرد حرّ ما لم يضرّ، وأنّه بعدم تلقيه اللّقاحات سينشر الضّرر ويُصبح مصدراً للعدوى، فيما يردّ الفريق الآخر، بأنّ من يثق باللّقاح وجدواه فلا يجب أن يخشى من العدوى ومن الآخرين!
ولم يقتصر الإعتراض على الإلزام باللّقاح على فئات عمرية أو اجتماعية وثقافية بعينها، بل هناك معترضون من كافّة الفئات وفي مختلف دول العالم.
وبعض هذه الفئات يخضع لنظريّات المؤامرة، والبعض لا يخضع لها وإنّما يُناصر حريّة اختيار الفرد وخاصّة مع وجود شواهد على بعض الأضرار وكذلك عدم وجود تأكيدات علميّة جازمة على الفعّالية التامّة للّقاحات.
وتعدّدت نظريّات المؤامرة حول اللّقاحات، وقد رصدت "آنّا راسل" في مجلّة "نيويوركر" بعضاً منها، وممّا رصَدته، أنّ منها ما يتحدّث عن ضررِها على الخصوبة وعلى احتوائِها رقائق إلكترونيّة فائقة الصّغر لزرعها في جسم الإنسان واستشهدت باستطلاع رأي لمجلّة "نايتشر"، وجد أنّ التّضليل على وسائل التّواصل الاجتماعيّ أدّى إلى هبوط نسبة البريطانيين الذين سيتلقّون اللّقاح بشكلٍ "حتميّ" بـ 6.2% بعدما شاهدوا نظريّة مؤامراتيّة من بينها أنّ بيل غايتس وضع مخطّطاً ضدّ مواطنيه.
ولكن فيما يبدو أنّ السّبب الأبرز لاعتراض الكثيرين على اللّقاح هو الأضرار الجانبية، وقد أوضح عميد كلية الصحّة العامّة بجامعة براون، الدكتور أشيش جها، أنّ أي آثار جانبية سلبيّة من اللّقاحات "تظهر دائماً خلال أوّل أسبوعين، وبالتّأكيد في غضون أوّل شهرين"، وهو ما دعاه هو والعديد من خبراء الصحة الآخرين من إدارة الغذاء والدّواء الأمريكية الإنتظار لمدّة شهرين على الأقل بعد تطعيم المشاركين في تجارب لقاحات "كوفيد-19" قبل التّفكير في منح تصريح طارئ لأي لقاح.
كما قال الدكتور بول أوفيت، مدير مركز تعليم اللّقاحات في مستشفى الأطفال في فيلادلفيا، وعضو اللّجنة الإستشارية للقاحات والمنتجات البيولوجيّة ذات الصّلة التّابعة لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، إنّ أخطر الآثار الجانبية للقاح في التاريخ، اكتُشفت جميعها في غضون أوّل ستة أسابيع.
وأوضح أوفيت، مبتكر مشارك للّقاح الفيروسة العجليّة الذي درس علم اللّقاحات لأكثر من أربع عقود، أنّ "لقاح الجدري يمكن أن يسبّب التهاباً في عضلة القلب، ولقاح شلل الأطفال الفَموي كان سبباً نادراً لشلل الأطفال وحدث في حوالي جرعة من أصل 2.4 مليون جرعة، وكان لقاح الحمى الصفراء سبباً نادراً للحمى الصفراء، كلّ ذلك حدث في غضون ستّة أسابيع من تلقّي الجرعة".
ولعلّ الأمر لا يقتصر على لقاحات كورونا، بل كان التّلقيح الإلزامي مثاراً للإعتراض والجدل على مدى التّاريخ، وذلك منذ أصبح اللّقاح ضدّ الجدري في بريطانيا إلزاميا للأطفال في العام 1853، وقد أثارت إلزامية التّطعيم هذه معارضة شرسة.
وتنوّعت معارضة هذه الفكرة بين خطر تلقيح منتجات مشتقّة من حيوانات وبين دواع دينيّة وكذلك بين انتهاك الحريّات الفرديّة، بحسب ما ذكرت الباحثتان آنيك غيموزان وماريون ماتيو في كتاب "فاكسيناسيون: أغريسيون أو بروتيكسيون؟" (التّلقيح: اعتداء أو حماية؟) الصادر عن مركز "إنسرن" ودار "لو موسكادييه".
وقد أضيف "بند الضّمير" إلى القانون البريطاني سنة 1898 لإعفاء المتردّدين من التّطعيم.
وتشهد الولايات المتّحدة الامريكية أكبر مظاهر الإعتراضات على فكرة اللّقاح الإلزامي، فقد قام الرّئيس الأمريكي جو بايدن، بحثّ أرباب العمل في الولايات المتّحدة على إصدار إنذارات نهائيّة لموظّفيهم بضرورة التّطعيم ضدّ فيروس كورونا، ويقول التحذير: إحصل على اللّقاح وإلا تفقد وظيفتك.
ويقول بايدن إنّه سيصدر قريباً أمراً رسمياً بضرورة حصول جميع العاملين في مجال الرّعاية الصحية على اللّقاح، وحثّ سلطات الولايات على القيام بذلك مع المعلمين في المدارس أيضاً.
وهو ما قوبِل باحتجاجات، ففي مدينة كونكورد بولاية نيو هامبشاير، كان من اللّافت رؤية بعض العاملين في القطاع الصحّي ومن يرتدون زي المستشفى يشاركون في احتجاج كبير ضدّ قرارات إجبارهم على تلقّي اللّقاح.
ورصد موقع بي بي سي بعض شهادات المعترضين، حيث نقل عن إحدى الممرّضات قولها: "أنا متديّنة. أعتقد أنّ خالقي منحني جهازاً مناعياً يحميني، وإذا أصابني المرض فهذه إرادة الله. لهذا لن أتناول دواء يؤثّر على جهاز المناعة لدي" وأكّدت أنّها مستعدّة لخسارة وظيفتها في مجال التّمريض إذا تمّ إجبارها على التّطعيم.
وأقرّ سكوت كولبي، الرّئيس التّنفيذي لمستشفى أبر كونيكتيكت فالي، بأنّه فقد العديد من أفراد الطاقم الطبّي بسبب إلزامهم بالتّطعيم، في فترة زادت نسبة الإشغال في المستشفى بسبب متحوّر دلتا وتراكم الإجراءات غير المنجزة المتعلّقة بفيروس كوفيد.
كما نظّم نحو 200 من موظفي شركة بوينج لصناعة الطائرات احتجاجاً في مدينة إيفريت شمالي سياتل على شرط الشركة ضرورة حصول العمال الأمريكيين على تطعيم ضدّ فيروس كورونا المُستجد ” كوفيد-19″، حسبما ذكرت وكالة رويترز.
وقالت بوينج ، إنّها ستطلب تطعيم موظّفيها الأمريكيين البالغ عددهم 125 ألف موظّف بحلول الثّامن من ديسمبر المُقبل بموجب أمر تنفيذي أصدره الرّئيس جو بايدن.
ويواجه بايدن وفريقه صعوبة في التّغلّب على جائحة كورونا، لأنّ قطاعاً كبيراً من سكّان الولايات المتّحدة ما زال يرفض أخذ اللّقاحات رغم أنّها متاحة على نطاق واسع.
وهنا نتساءل عن سبب المشكلة، وهل هو يتعلّق بأسباب فطرية بشرية تخشى من المجهول، أم أنّ ثقة المجتمعات والشّعوب في النّظام العالمي ومؤسّساته وحكوماته قد اهتزّت للدّرجة التي يخشون منها هذا النّظام أكثر من المرض؟!!!