أحمد فؤاد - مصر
دخل العالم، والمنطقة العربيّة في قلبه، على شتاءٍ ثالث تحت ظلال أزمة تفشّي جائحة كورونا، عام جديد من المعاناة المنتظرة، والموت المستمر والاعتيادي، ولكن يزيد عليها في عالمنا العربي المنكوب، اتّساع الهوّة بين أنظمة الحكم وشعوبها إلى حدّ من الخطر، الذي أصبح عبئاً على أيّة جهود -مهما كانت صادقة- للعبور من الشّتاء الحالي بأقل القليل من الخسائر والتّبعات.
والمعلوم بالضّرورة أنّ كفاءة أي نظام حكم، في أي وقت ومع أي جماعة بشرية، تتحدّد بمدى قدرة النّظام على تعزيز مرونة المجتمع، وزيادة درجة ترابطه في وجه الأزمات، وحتّى أمام الصّدمات المفاجئة، دون استنزاف الإمكانيّات في مواجهة تطول بلا طائل، وخصوصًا في خِضم صراعات عالم اليوم، الذي ترتفع فيه درجات المُخاطرة وعدم اليقين، وتلفّه الهشاشة والشكّ من أقصاه إلى أقصاه.
في ظلّ الظّروف المرعبة الحالية، التي تداخلت معها شائعات حدوث تحوّر جديد للفيروس في الصّين، تحت اسم "هيهي"، وسواء كان القادم من الصين فيروس جديد أو موجة أحدث للوباء الفتّاك، فقد اختار نظام الحكم المصري، الذّكي جدًا، أن يفرّغ مقعد وزارة الصحة، ويعلن حصول وزيرتها هالة زايد على إجازة علاجية طويلة، يُقال إنّ ورائها شبهات فساد، وأن ينقل الإشراف على الوزارة لتتبّع وزير التّعليم العالي خالد عبد الغفّار، في هذه الظّروف التي باتت معها الصحّة أهم وزارة في البلد قاطبة، والجهة الأولى المعنيّة بالتّعامل مع الكارثة القائمة.
ارتكب النّظام كلّ ما يُمكن ارتكابه من موبقات في قضية الوزارة الأهم، من التّعمية الكاملة على قضيّة الفساد، وعدم الإعلان عنها، ثمّ الإعلان عن نقل وزيرة الصحة إلى مستشفى "خاص"، ليدعم الإحساس المتزايد بعدم الكفاءة والفشل في إدارة كلّ المستشفيات العامّة والحكوميّة في مصر، وفي الأخير، ترك المقعد الكبير فارغًا، وفي ظروف يُعدّ الفراغ فيها انسحابًا دون رغبة قتال.
ولكرسي الوزير في مصر حساسيّة خاصّة، تتجاوز المنصب أو صلاحيّاته الفعليّة أو حتّى قدرته الفعلية من بعد العام 2011 على وضع السياسات، إذ كان النبي يوسف وزيرًا في مصر القديمة، ثمّ ظلّ طوال عشرات القرون هو المنصب الأعلى الذي يُمكن أن يصل إليه مصري طوال عهود الخلافة الإسلامية أو الاحتلال الأجنبي بعدها، وهو أرفع ما يمكن لموظف حكومي أن يشغله، باختصار هو الحلم والحلّ في الوجدان الجمعي للناس، وفراغ بهذا الشّكل لا يمكن ردّه إلى قدرة مساعدي الوزير أو موظفي الوزارة على شغله وتسيير دولاب العمل اليومي.
النّتيجة المباشرة لغياب المسؤول عن وزارة الصحة حدثت في أقصى الجنوب، مدينة أسوان، التي شهدت هجومًا ضاريًا من العقارب مع السيول الشديدة التي ضربت المحافظة، والحصيلة الأوّلية نحو 500 مصاب باللّدغات، وخرجت نائبة المحافظة في البرلمان عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، ريهام عبد النبي، ببيان إلى مجلس النواب، قائلة إنّها تدخّلت لتوفير أمصال ضدّ لدغات العقارب، بل وحتّى سيارات مياه لمستشفيات أسوان، مع الارتفاع الكبير في عدد الإصابات!.
يقينًا، وفي أزمة سنوية صارت معتادة ومكرّرة ومملّة، لم تكن مستشفيات وزارة الصحة جاهزة للتّعامل الفوري مع الإصابات في أسوان، ثمّ لم تتمكّن المحافظة من توفير احتياجات الأهالي مع قطع الطرق نتيجة للسيول، وبالطّبع لم يتواجد من يوجّه بتوفير سيارة إسعاف لنقل الحالات المصابة أو للوصول إلى القرى والمناطق المنكوبة، وبالطّبع ستمرّ الكارثة كما مرّ غيرها دون حساب أو حتّى سؤال.
الابتلاء المصري يمكن تلخيصه في كلمات معدودة، حقيقة عارية عنوانها الغباء المُستحكم، المسيطر بعصا القهر على جموع الناس، ثمّ هو يستبيح رسم كلّ خطوة وكتابة كلّ كلمة، ويحتكر وحده توجيه الرّسائل وترتيب الأولويّات، مفتونًا بما يتخيّله قدرة مطلقة لقوّته وبطشه، وفي أوّل اختبار يبدو كطفل تائه، ينتظر من يرشده إلى طريق الخلاص، لكنّه أبدًا لا يسمع لعاقل، ولا يتبع سواء السبيل.
الرّسالة الوحيدة التي اختار النّظام توجيهها لعموم الناس، في ظلّ أزمة باتت معروفة ومملّة لمستشفيات وزارة الصحة وخطابها وأساليب عملها، هي تحسبوا من الموت القادم، وفقط، وترك عموم الناس للجمعيات الخيرية وتبرّعات أهل الخير، التي تعدّ الجهات الأكثر توفيرًا لأسطوانات الأوكسجين حاليًا أو المساعدة في توفير العلاج للمرضى، مع الغياب الكامل لإرادة بناء ولو مستشفى واحد طوال 3 سنوات من التّعامل مع أزمة كورونا.