د. سحر حمود (استاذة في الجامعة اللبنانية)
يشغل العمل للأغلبية منا المساحة الأكبر من نشاطنا الإنساني نسبة الى الاهتمامات الأخرى. وحتى في الأحيان التي تكون فيها ظروف العمل وشروطه مزيجاً من القسوة والرتابة وضآلة المردود المالي، فإن العمل وانماطه وطبيعته تظل هي العامل الحاسم في تشكيل مساراتنا المعيشية وأحوالنا النفسية. فبديل العمل هو البطالة التي لا يطيقها أكثر الناس في ظل تحولات عميقة هائلة كانت تشهدها القطاعات المهنية في الآونة الأخيرة أدّت الى انتهاء مجموعة من الوظائف وفرص العمل نتيجة عوامل ومؤثرات منها تقانة المعلومات. وفي ظل الازمة العالمية "كورونا"، أدت الإجراءات المفروضة على المؤسسات والافراد الى احداث تغييرات على أصل مفهوم العمل سواء لدى ارباب العمل ام العاملين أنفسهم، مما قد ينذر بتحولات جوهرية مستقبلية بأنماط العمل، هيكليته، المهام والادوار، والمؤهلات المطلوبة. فكيف كانت تأثيرات "كورونا" على سوق العمل والاستخدام في الحياة الخاصة للأفراد والعائلات؟
انطلاقاً من السؤالين المتعارف عليهما عند لقائنا معارفنا: "اين تعمل؟" و"كم تتقاضى؟"، أي ما هي مكانتك الاجتماعية وتلك الاقتصادية، فقد تتنوع الإجابات بين "أصبحت بلا عمل"، "اعمل بدوام جزئي"، او "اعمل من المنزل". هذه الخيارات الثلاثة التي دفعت بأرباب العمل إلى تبنيها ربطاً بسياساتها المالية. فكانت أول تأثيرات "كورونا" هي على "الدخل"، ليس فحسب "دخل رب الاسرة"، بل ايضاً دخل المرأة سواء "الزوجة" ام "الابنة" التي لا يمكن انكار حقيقة ان دخلها أصبح مصدراً جوهرياً للحفاظ على المستوى الاقتصادي والمعيشي للأسرة. ورافق ذلك العديد من المشكلات الاجتماعية التي نتجت عن استحالة تنظيم ميزانية الاسرة في ظل الازمة الاقتصادية التي اجتاحت أسواقنا.
نأتي بعد ذلك للحديث عن النشاط المهني للفرد الذي تطلب منه ممارسة مجموعة من المهارات والقدرات التي لم يعتد عليها من قبل، لا سيما على صعيد استخدام برامج وتطبيقات الكترونية تفاوتت نسب نجاح استخدامها وفقاً للفئات العمرية والمستوى التعليمي، إضافة الى مهارة التعامل مع "بيئة عمل منزلية" تفتقر الى المعايير المهنية السليمة وتتطلب "إدارة فردية" للموارد المتاحة وطرق تنظيمها واستثمارها، لا سيما إذا كانت هذه البيئة تشمل عمل الزوج والزوجة. مع الاخذ بعين الاعتبار المسؤوليات المنزلية المعتادة وتلك المستجدة على صعيد التعليم عن بعد وحضانة الأطفال.
اما على صعيد البنية الزمنية، فقد طالت التجربة سلم الأولويات المهنية ولم يعد عامل الوقت هو مؤشر النجاح والاستمرار، بل حلّت الإنتاجية بدلاً من ساعات العمل المطلوبة، وتم الاستعاضة عن اجتماعات العمل التي كانت تستهلك ساعات عمل يومية بإرشادات وتوجيهات ادّت المطلوب والاهداف المتوخاة منها.
وانطلاقاً من هذه الثغرات التي تشكل جزءاً من التحولات التي طالت العمل، فقد قدمت "كورونا" دروساً مهنية يمكن الاستفادة منها من قبل ارباب العمل والافراد بما يتعلق بمنظومة العمل ومفاهيمه الجديدة. من هذه الدروس، أن على المؤسسات إعادة النظر بهيكليتها الوظيفية التي أظهرت التجربة عدم فعالية اغلبها لا سيما على صعيد تحديد الأدوار والمهام، فقد يتطلب منها صياغة توصيفات عمل جديدة تأخذ بعين الاعتبار إنتاجية الافراد بعيداً عن المكانة المهنية او التصنيف الجنسي، وتعمل على ربط هذه الإنتاجية بجدول رواتبها، وما يرافق هذا التوصيف من مؤهلات تدريبية جديدة تتوافق مع المتغيرات المستجدة ومتطلبات العصر.
وفي هذا الإطار، قد تطرأ متطلبات تخصصية جديدة تستدعي من مؤسسات التعليم العالي إعادة التفكير بتخصصاتها العامة والسعي نحو ترخيص اختصاصات أكثر دقة ومواكبة للاحتياجات المجتمعية وسوق العمل. إضافة الى إمكانية تفعيل التعليم المهني في بعض المجالات التي تساعد في إطار ريادة الاعمال. لا سيما وان تجربة العمل المنزلي قد أظهرت الحاجة الى هذه المجالات المنتجة والتي قد لا تحتاج بالضرورة الى مكان عمل محدد.
واخيراً، فقد كانت هذه التحولات المهنية فرصة فعلية لاختبار مفاهيم مثل "الترابط الاسري" و"التكامل الاجتماعي بين المرأة والرجل" التي تسعى العديد من الجهات الى ترسيخها في المجتمع. هذه الفرصة قد استفاد منها البعض، ولكن هذه الاستفادة في الواقع لا تزال فقيرة وغير مثمرة على المدى الطويل. فالتغييرات الاجتماعية المقصودة يجب ان تستفيد من كل فرصة تولدها الازمات، وان تحول كل تهديد الى فرصة. فهل سنعمل على تقويم مساراتنا ام لا؟