أحمد فؤاد / كاتب مصري
عانت البشريّة، طوال سنين وجودها، من التّعامل مع نكبات الموت الجماعي، وبينما كان السبّب الأوّل حتّى العصور الوسطى هي الأوبئة والطاعون، كانت أغلب الأحداث في التاريخ الحديث تُشير إلى الحروب واستهداف المدنيين بشكلٍ واسع خلال المعارك العسكرية، وقصف المدن عمدًا بالمدفعيّة والطيران، خاصّة ما جرى بطريقة ممنهجة خلال الحرب العالمية الثانية.
لكن سيظلّ حصار مدينة لينينغراد الروسية –سان بطرسبرج حاليًا- واحدًا من أكثر مشاهد الحرب العالمية الثانية إلهامًا، القدرة الاستثنائيّة على الصمود لمواطنين مدنيين، أدركوا بعقل سليم إنّ النّصر ممكن، رغم استحالة الإمكانيّات، وظلّوا في مواقعهم يقدّمون لوطنهم أقصى الطاقات، رفيقهم الموت والجوع والمعاناة، لمدة 882 يومًا، كأطول حصار مستمر لمدينة في فترة الحرب.
وكانت أكثر التصرّفات فائقة الدّلالة في صمود المدينة الروسية هي استمرار عمل راديو المدينة بشكل طبيعي، ودقّات الـ "metronome" أو المسرّع الشهير، الذي كان يُذاع عبر مكبّرات الصوت المنتشرة في كلّ شوارع المدينة السوفيتيّة الكبرى، في غير أوقات البثّ الإذاعي الرسمية، وكانت دقّاته المنتظمة تدلّ على أنّ قلب المدينة المحاصرة لا يزال ينبض بالحياة، ويرفض الموت والاستسلام للفاشية، كما أضاف له الروس مزيّة تكتيكيّة أخرى، إذ كانت الدقّات تتسارع للتّحذير من شنّ الألمان غارات جوية على المدينة.
كان البشر في المدينة المحاصرة، مثلهم مثل كلّ البشر في أي وقت وأي مكان، يبحثون عن الحياة رغم الموت الكثيف والمرعب الملازم لكلّ خطوة جديدة، كانت كلّ دقيقة إضافية تمنحهم الأمل في البقاء والنّجاة، وبمجاورة الصّقيع والجوع والقصف المعادي، استمرّت المقاومة في منح البشر المزيد والمزيد من آمال الصمود، في وجه أعتى قوى الشرّ والدّمار.
وما أحوج الجميع، المسؤولون الأفذاذ العرب، والمواطن الذي يعاني الأمرين من خطر الفيروس الدٍاهم والشكّ العميق في الأنظمة الحاكمة، أن يسترجعون قصّة صمود لينينغراد، والشاهد الراقي وراء انتصارها، خاصّة في ظلّ حالة التّشابه التي يخضع فيها عالم اليوم كلّه لحصار فيروس كورونا، بطفراته المرعبة والمتعدّدة، وعودته كلّ شتاء بالجديد من جعبة المعاناة والخوف وآلام الفقد وأوجاعه.
بالتأكيد لا يتحمّل المواطن العربي شيئاً في وزر الأزمة الحالية، إذ هو يمثّل بالضبط حالة المفعول به، دون أدنى قدرة على التأثير أو تغيير المقادير، وفي أكثر دول العالم تقدمًا، كانت الحكومات هي التي تتولى مسؤولياتها، بإعلان الإغلاق وعزل المدن الأكثر تسجيلًا للإصابات، وضمان وصول المواد الغذائية إلى الأسر داخلها، وإقامة المستشفيات والوحدات العلاجية المخصّصة للطوارئ، إضافة إلى شفافيّة الإعلان وصدق الإعلام الرّسمي، ما يمنح المواطن الفرصة لإعادة تكييف نشاطه اليومي مع الأزمة، كما فعلت الصين بقدرات استثنائية لدولة قائمة على الاقتصاد الموجّه مركزيًا، ونجحت بشكلٍ لافت في حصار الأزمة، أو كما تصرّفت إيطاليا، لكن متأخرًا.
في كلّ الحالات لم تخرج الحكومات لتلقّي العبء على المواطنين، وتصفهم بالاستهتار أو عدم المسؤولية، كان الجميع يحاول أن يعمل وفق منظومة تساعد على تجاوز أثر الأزمة بأقل الأضرار الممكنة، وتتعلّم من تجارب غيرها، والأهم: إنّ الحكومات الناجحة حاولت أن تظلّ دائمًا في خندق الناس، فلا وقت للاتّهامات أو للتّهرب من الواجب، الجميع حاول أن يجنّب بلاده المزيد من الخسائر.
بالتّوازي مع تحمّل المسؤولية، كانت مصانع الأدوية تتسابق في دول العالم للخروج بلقاح ضدّ الفيروس القاتل، في الولايات المتّحدة والصين وبريطانيا، وغيرها من الدول، الجميع كان يلهث لمحاولة البحث عن علاج ناجع يوقف فيروس "كورونا" عند حدّه، في سباق مثير بين قدرة الإنسان على صناعة الأمل، وقدرة المرض على سلب الحياة ذاتها.
كلّ هذا كان يجري في عالم آخر، لا نعرفه، فقط نتابعه، لم تنجح أي دولة عربية في إعادة توجيه مواردها –وهي هائلة- وإنشاء مصنع أو أكثر للأدوية، قادر على توفير اللّقاحات الآمنة والفعالة ضدّ فيروس كورونا، وتوقّفت الجهود عند دول خليجية حجزت مقدمًا كميات هائلة من اللّقاحات بالمال، ودول أخرى انتظرت وتنتظر حكوماتها الحصول على هذه اللّقاحات مجانًا أو تبرعًا من الدول المنتجة لها، في أحط تصرف ممكن، حيث ترفض دولة تخصيص جزء من مواردها لاستيراد لقاح ثبت فعاليته، وتقبل بآخر قد لا يكون فعالًا أو آمنًا، والحجّة توفير العملة الصعبة للطبقات الحاكمة في هذا الظرف المميت.
وللتدليل فقط على خيبة المسعى للحكومات العربية، هي حقيقة أنّ إنشاء مصنع أدوية واحد كبير، كان سيتولّى إمداد ما يفوق الـ 400 مليون إنسان بحاجاتهم من اللّقاحات الضرورية في ظلّ أزمة مستمرّة منذ 3 أعوام، ولا يعلم أحد لها نهاية إلّا الله، كان سيوفر من تدفّقات العملة الصعبة عشرات أضعاف ما تظنّ إنّها وفّرته من عدم إقامته.
شركة سينوفاك الصينيّة للأدوية، وهي واحدة من الشركات المنتجة للقاحات "كورونا"، أعلنت عن ارتفاع مُذهل في أرباحها خلال النصف الأوّل من العام 2021/2022، بزيادة قدرها 160 ضعفًا عن الفترة ذاتها في 2020/2021، حيث حقّقت الشركة 11 مليار دولار من عائدات بيع اللّقاح، مقارنة بـ 67.7 مليون دولار فقط في الفترة نفسها من العام الماضي.