أحمد فؤاد
لم تكن المواجهة العربية مع أزمة تفشّي جائحة "كورونا" خيارًا سهلًا، فـ "الحرب" على الفيروس القاتل فرضت فرضًا على الحكومات العربية، ثمّ هي جاءت فجأة كاختبار بالغ التّعقيد والصعوبة في وقتٍ حرج، ووضع من الإجراءات الصحيّة والتّكاليف الضّخمة ما لم هذه الحكومات مستعدّة له، وفي الأخير حمّلها بأعباء اقتصادية تفوق قدراتها الضعيفة على اجترار الحلول، في ظلّ التّداعيّات الاقتصاديّة السلبيّة التي تمرّ بها كلّ دول العالم.
على غير انتظار هاجم تفشي الفيروس القاتل البِنية العربية الضّعيفة، والبالغة الهشاشة، وعلى غير توقّع استمرّت الأزمة لتزداد المساحة العارية من الجسد العربي، وبدون خطوط دفاع تُرك النّاس يجرّبون حظّهم في لُعبة الحياة والموت، وببطء الحكومات الشديد في اتّخاذ القرار ثمّ بالسرعة المُتغابية في العدول عن قراراتها، استمرّ النّزيف العربي، نزيف الأرواح والموارد والثّقة، وما يبدو الآن إنّه لن يتوقف قريبًا.
عجز كامل أو شبه كامل هو حال الحكّام العرب مع الفيروس القاتل، لم تنجح الأزمة في تغيير بِنية التّفكير الرسمي العربي، فهذا التّفكير يلجأ في مواجهة الكوارث إلى النّفي أوّلًا، ثمّ حين ينكشف الفشل يكون الكذب هو الوسيلة الأولى للدّفاع، ومن ثمّ، نستمر في متوالية من تجميل القبح وممارسة أقصى درجات إلقاء اللّوم على الآخرين، كلّ الآخرين في ما عدا المسؤول الأوّل والحقيقي عن الخيبة والنّكسة، وننتظر من الرّحمة في تصاريف الأقدار ما لا نستحقّها فعلًا.
كانت أزمة كورونا دافعًا هائلًا لإعادة رسم العلاقات العربية-العربية، وإعادة النظر في مجمل السياسات الاقتصادية-الاجتماعية التي تتبنّاها الحكومات العربية وتفرض عليها من مؤسّسات المال والسيطرة الدولية، وإعادة وضع عربة القطار على طريق جديدة، تضمن حشد كلّ الموارد وتحقيق أقصى استفادة من القدرات والإمكانيّات الوطنيّة، ليس فقط وصولًا إلى عبور مرحلة الوباء بشكل يقلّل الخسارة، لكن لإقامة بناء مستقبلي يستوعب الجميع ويمنح الأمل فرصة للحياة والوجود في واقعنا اليومي المُزري.
ولتقدير الفارق المُذهل بين تعامل حكومات العالم وحكوماتنا العربية مع تداعيّات تفشي الفيروس، لن يكون من المناسب الاستعانة بتجربة الصين، التي نشأ فيها –على غالب الأقوال- الوباء القاتل، كونها دولة كبرى ومركزية، استطاعت فرض إجراءات حاسمة، وتحمّلت تكلفة هائلة من خلال عزل مدن ومناطق كاملة في العام الأوّل للوباء، وإنتاج وشراء مليارات الجرعات من التّطعيمات في زمن قياسي، وغيرها من سياسات نجحت تمامًا في أن تؤتي ثمارها، وتقلّل من الآثار السلبية للإغلاق، بما جعلها في النّهاية تجني معدلات نمو اقتصادي يعز مثيلها في أي دولة بالعالم، إذ حقق الاقتصاد الصيني نسبة نمو بلغت 8.1% على أساس سنوي، ليصل الناتج المحلي للبلاد إلى 114.37 تريليون يوان (نحو 18 تريليون دولار أمريكي) العام الماضي 2021، وتكسر هدفها بالوصول إلى معدل نمو 6%.
لكن ولأنّ هوى حكوماتنا وحكامنا ونخبنا غربي، فإنّه من الأفضل مناقشة سبل تعامل ما يسمّونه ويعتقدون أنّه "العالم الحرّ" مع التداعيّات الاقتصادية للفيروس، إذ بلغت الأزمة الاقتصادية حدًا حرجًا في العديد من الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، التي جنى رئيسها الحالي جو بايدن المرّ كله، عقب تراجع شعبيته لأدنى مستوياتها في ظلّ وجوده على رأس الإدارة الأميركية منذ عام واحد، بفعل التضخّم وتراجع معدّلات النمو والتشغيل، وعدم اليقين المسيطر على مراكز صنع القرار بواشنطن تجاه الإجراءات والخطوات المتّخذة.
في أوروبا والولايات المتّحدة، حيث الحرية المنفلتة قدس أقداس المجتمعات، وغاية ما يغازلون الشعوب العربية به، انطلقت دعوة جديدة وفريدة من 102 ملياردير، في صورة خطاب إلى المنتدى الاقتصادي العالمي بـ "دافوس"، يحضّ الحكومات على فرض ما أسموه "ضريبة ثروة"، على الأغنياء للمساعدة في مواجهة تكاليف تفشي الوباء، والتي أصبحت أضخم من أن تتحمّلها الاقتصاديّات الغربيّة المنهكة بشدّة.
وطبقًا للمقترحات من مجموعة "المليارديرات الطّيبون"، فإنّ فرض ضريبة على الثّروة بشكلٍ تصاعدي، بحيث تطبّق ضريبة 2% لمن يملك 5 ملايين دولار، وصولًا إلى 5% لمن يملك أكثر من 500 مليون دولار، ينتظر أن يضمن للحكومات الغربية ما يناهز 2.5 تريليون دولار، وهو رقم هائل يستطيع انتشال ملياري إنسان حول العالم من هاوية الفقر، ويساهم بتوفير اللّقاح المجّاني لكلّ شخص في العالم، ويدعم إنشاء نظام رعاية صحية فائق الجودة في كلّ الدول الكبرى.
ملخّص الخطاب هو محاولة استباقيّة ذكية من مجموعة الأغنياء بترك الحكومات تحصل على نسبة متدرّجة ضريبة ثروة لمرة واحدة، بما يكفل توجيه المبالغ المحصّلة إلى الرعاية الصحية والدّعم للفقراء والأقلّ دخلًا في بلدانهم، عقب انتشار تقارير عديدة من مراكز مرموقة تكشف عن زيادات غير منطقية ولا مبرّرة في الثروات خلال الجائحة، ومنها على سبيل المثال تقرير منظّمة "أوكسفام" وقبلها تقرير مدرسة باريس للاقتصاد، وغيرها من الجهات غير الربحيّة، والتي طالبت بفرض ضرائب تصاعديّة تراعي ما حقّقته رؤوس الأموال من قفزات كبيرة خلال العامين الماضيين.
فهل يمكن أن نطمع في رؤية قرار حاسم من الحكومات العربية يفرض ضرائب ثروة على أغنى الأغنياء، ممّن أجادوا وتفنّنوا في امتصاص ثروات البلدان والشعوب، وفي الغالب فإنّهم على عكس رجال الأعمال بالغرب والشرق، ليسوا ممّن تلبسوا يومًا بالمبادرة أو الابتكار، بل هم أقليّة برعت في قراءة اللّحظة المناسبة واستغلالها، بالفساد والمحسوبيّة وغيرها من الأساليب غير المشروعة غالبًا.
إنّ إعادة توجيه الأموال العربية والحقوق العربية إلى المواطن الذي يُعاني الأمرّين، ويُجابه في سبيل تمضية يوم اعتيادي، بلا أدنى قدرة أو رغبة في الرّفاهية، وكأنّه في معركة استنزاف يوميّة، أمر لا يُمكن تأجيله الآن، فالفرصة سانحة، والمناخ العالمي الذي شكّل من تقارير تضخّم الثروات ضغطًا ليطالب الأغنياء بفرض الضريبة على أنفسهم، يمكن استغلاله ومحاولة استرداد الثّقة مع الشعوب العربية.. وهو أمر لو يعلمون عظيم.