أحمد فؤاد
تمثّل فترة ازدهار وتوسّع الإمبراطورية المغوليّة، واحدة من أغرب الفترات في تاريخ الدّول والممالك الكبرى، والتي سيطرت على مساحات هائلة من العالم القديم، إذ بقدر ما نجحت تلك القبائل البدويّة في اكتساح عشرات الملايين من الكيلومترات المربّعة، في فترة قياسيّة تعدّ معجزة بمقاييس العصور الوسطى، وقدرتها على تدمير حضارات أكبر منها وأقوى، إلّا أنّها ظلّت ظاهرة عسكرية، سرعان ما تبخّرت قدرتها على التقدّم، إلى أن اندثرت تمامًا.
والقراءة الواعية أساسية لفهم الماضي والحاضر، في آن، فالعلاقة الخلّاقة بين الأرض والبشر تصنع لنفسها حياة قادرة على الاستمرار، وقادرة على بَدء حوار بين المجتمعات المتجاورة، بشكلٍ يضمن استمرار التّلاقح بين الحضارات والشعوب، وتحقيق المصالح الآنية لأطرافها، فضلًا عن مصالح بعيدة المدى تصبّ لصالح بقاء واستمرار الإنسان ورخائه على الأرض.
رغم وصول المغول، بقيادة مؤسّس خروجهم من سهول منغوليا، چنكيز خان، إلى بكين قلب الحضارة الصينيّة التي كانت تعدّ الأرقى والأكثر تقدّمًا في العالم، ثمّ اكتساح جيوش حفيده هولاكو الجرارة لبغداد، والتي كانت يومذاك درّة العلم وكعبة العلماء وأهم مدن العالم القديم بلا استثناء، بوجود دار الحكمة، والتي ضمّت مخطوطات وكتب العلوم من كلّ الحضارات السابقة، بالإضافة إلى ما أبدعه العلماء المسلمون، فقد توقّفت استفادة القائد المغولي منها في تحويل الدرر التي كانت تعجّ بها إلى جسر تعبر عليه قواته النهر!.
فقدت الإمبراطورية المغوليّة الشّرط الأساس للاستمرار على الساحة العالمية، إذ لم تقدّم للحضارة الإنسانية أي منجز معروف، باستثناء تذكارات الدّم ومشاهد حصد الرؤوس المروّعة، لم تقدّم مشروعها الحضاري الذي يقنع الملايين ممّن يقعون تحت حكمها المباشر بالقبول بهم، وكذلك يستطيع أن يُغازل جيرانها بتغليب المصلحة على الحرب، الدولة المغولية كانت تُجيد، وفقط، زرع العداء والدم، وبالتالي بقى وجودها رهنًا بتفوق قوتها العسكرية على محيطها، وحتى على أراضيها، وحين بدأت الصدامات بين قادة المغول أنفسهم، كانت النّهاية حتميّة.
كانت القبائل المغولية تمارس السيطرة بهمجيّة مطلقة، لا ترى في العالم إلّا مجالًا واسعًا لتحقيق مصالحها، وانحصرت كلّ مصلحة لها في قضم أراضٍ جديدة، تضمن توريد الغنائم إلى قصور أمراء العالم الجديد، وإشباع الرّغبات الدّموية في القتل والاغتصاب والسبي للجنود، وإذا كانت الحضارات السابقة تحرص على إنشاء الآثار الضّخمة والصّروح المعمارية فائقة البهاء والعظمة للتّدليل على مرورها ووجودها، فإنّ المغول لم يتركوا سوى سجلّات الدّم وأهرامات الرؤوس المقطوعة وأطلال مكتبات محترقة على طول امتداد دولتهم.
لم يترك المغول للعالم الكثير الذي يمكن التعويل عليه في الجانب الحضاري، لا فلسفة أو علوم ولا منجزات هندسية فائقة أو أفكار جديدة تُسهم في مسيرة الحضارة البشرية، إلّا في جانب واحد، وهو المتعلّق بالحروب والغزو والتوسّع، إذ برع المغول منذ عصر المؤسّس چنكيز خان في التطوير الهائل لعدد من الأساليب الحربية، والتي صارت فيما بعد أيقونات التفوّق لدى العديد من الجيوش، وحتى اليوم.
استخدم المغول أدوات الحرب النفسيّة بالقدر الأقصى من التفوّق والتميّز، وظهرت نتائجها بأعظم ممّا ظهرت في الصين، والتي كانت تملك جيشًا هائلًا ومساحات شاسعة من الأرض والموارد والسكان، ثمّ إنّهم أوّل من أدخل مصطلح الحرب البيولوجية في التاريخ المعروف.
في العام 1347 م. حاصر الأمير المغولي غاني بيغ مدينة كافا في شبه جزيرة القرم، راغبًا في ابتلاعها وضمّها لمملكته، لكن الأسوار والبحر منعا المغول لمدّة عام كامل في اقتحام المدينة، ولما وجد القائد المغولي الطاعون يفتك بجيشه قرّر الانسحاب والعودة من حيث أتى، لكن ليس قبل أم يتسبّب بكارثة إنسانية مروّعة، تخلّد اسمه في التاريخ.
أمر بيغ قواته بإلقاء جثث زملائهم الذين قضى عليهم الطاعون بواسطة المنجنيق إلى داخل المدينة المحاصرة، وحين شعر باكتمال مهمّته انسحب تمامًا، ليخرج السكان هربًا من الموت الذي سقط عليهم من السماء إلى أوروبا ناقلين معهم أسوأ موجة موت جماعي في التاريخ "الموت الأسود"، والذي حصد لاحقًا ثلث سكان أوروبا، وأصبح علامة تاريخية سوداء في جبين البشرية.
وكما استفادت الولايات المتحدة الأميركية، إمبراطورية الشر العالمي الجديدة، والوريثة الشرعية للتاريخ المغولي المقيت، من أساليب الحرب النفسية، ودكّ المدن على رؤوس سكانها، وممارسة أقصى درجات العنف والتدمير ضدّ شعوب ودول بأكملها، فيما دعته بحملات القصف الإستراتيجي ضدّ دول المحور في الحرب العالمية الثانية، ثمّ حملات الصدمة والرّعب ضدّ العراق وأفغانستان في القرن الجديد، فإنّها على درب الحرب البيولوجية سائرة بمنتهى الحماس أيضًا.
وترجع واحدة من أبشع التّجارب المثبتة، والتي اعترفت واعتذرت عنها الولايات المتحدة في تصرف نادر في 2010، إلى قيام أطباء الخدمة العامّة الأميركيين بتجربة "توسكيجي" في دولة غواتيمالا، حيث عمد الأطباء إلى حقن السجناء ومرضى الصحة النّفسية بفيروس الزهري، بين عامي 1946 و1948، ومراقبة تطوّر المرض واستجابته للعلاجات الكيمائية المختلفة، ليذهب عشرات الضحايا نتيجة رغبة واشنطن في تطوير "سلاح خفي" قد تتمكّن من استغلاله خلال ذروة الحرب الباردة.
وقبل غواتيمالا، سمح الجيش الأميركي للوحدة اليابانية سيئة السمعة "731" بالفرار من الملاحقة، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنحها صكّ البراءة من تجاربها المريعة على البشر، والتي كان ضحيّتها أكثر من مئتي ألف صيني، مقابل الوصول إلى سجلّاتها والحصول على كامل أرشيف تجاربها على البشر، والتي يشيب من هولها الولدان.
لم يكن غريبًا أن يربط البعض بين نشاط واشنطن السرّي في مجال الأوبئة والحروب البيولوجية وبين انتشار فيروس كورونا، والذي روّع البشرية طوال ثلاثة أعوام، ثمّ الرّبط الأهم بين الإعلانات المتتالية عن انتشار فيروس "جدري القرود"، وتجارب الأميركيين في قارة إفريقيا، الملعب السري لشركات الأدوية الكبرى، في ظلّ محاولات أميركية حثيثة لتعطيل النمو العالمي، خصوصًا في الصين، تمهيدًا لإعادة حظوظها في السباق على قمّة اقتصاد العالم، وهو سباق لا يقلّ خطورة عن حرب روسيا الجارية في أوكرانيا، ويمكنه في كلّ لحظة أن يتحوّل إلى كرة نار ضخمة تلتهم الجميع.
حان الوقت لفحص كلّ ما يأتي من الولايات المتّحدة، سواء أفكار معلّبة يحاول الأميركي أن يقدّمها لنا نستهلكها في بلاهة، أو لقاحات مجانيّة يجري توزيعها على الدول العربية خصوصًا، ولا تجرؤ حكوماتنا على رفضها أو حتّى إخضاعها للتّجربة.