احمد فؤاد
يستطيع أي متابع للتّقارير والأخبار الاقتصاديّة، خاصّة خلال الشهر الأخير فقط، أن يخرج باستنتاج وحيد واضح، وهو أنّ العالم العربي لم يعُد يملك رفاهيّة تأجيل لحظة الحقيقة أو تجاهلها، فالتضخّم لم يعُد بُعبعًا يُستخدم التنبّؤ به لإثارة المخاوف، بل هو العنوان الأبرز والكلمة الأكثر شيوعًا في أسواق المال العالمية.
ورغم الواقع إنّ العديد من التّقارير الاقتصادية تصدر مصحوبة بسيناريو متشائم، حتّى تصل بعض الأقلام والدّراسات لتشبيه حال العالم اليوم بحاله قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية وتفشّي فيروس الإنفلونزا الإسبانيّة والكساد الكبير والاشتباكات بين دول أوروبا الكبرى، باعتبار أنّ كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا ستقودان حتمًا للضلع الثالث من المثلّث، وسنذهب إلى كساد محقّق يعقبه حرب عالمية ثالثة مدمّرة.
لكن الحقائق الموضوعيّة تقول إنّ العالم كلّه، وفي القلب منه المنطقة العربية مقبلين على خريف صعب وشتاء أصعب، مع انتشار متحوّرات كورونا عبر قارات العالم وفي كلّ دوله، وما ظهر للكافّة من عجز اللّقاحات الغربية عن وقف الانتشار المذهل للفيروس، بالإضافة إلى عجز الدول الأفقر –ومن بينها الكثير من الدول العربية- عن توفير اللّقاح للأغلبيّة العظمى من مواطنيها.
الموت هذه المرّة لن يكون الأسوأ مع عودة الفيروس بشراسة غير مسبوقة، وقدرة أعلى على الانتشار، وغياب كلّ ثقة بقدرة اللّقاحات المنتشرة حاليًا على إيقافه أو حتّى حصر انتشاره.
وكارثة تعامل الحكومات العربية مع أزمة كورونا لا يصح تعريفها سوى بأنّها اختلال عنيف في موازين الحساب بين الوطن والنّخب، وبالتّالي فشل في وضع وترتيب الأولويات، أصبحت النّخبة هنا هي الميزان والحكم والقانون، وبات كلّ ما لدى الحكومات لتقدّمه هو تعبيد الطريق للعمل والتربّح على حساب الأغلبية الساحقة من أناس، باتوا بدورهم أرقامًا في سجلات الدولة.
وفي عزّ أزمة وانتشار فيروس كورونا، فإنّ بلدًا عربيًا كبيرًا مثل مصر، يُعاني من نزيف هجرة الأطباء إلى الخارج (أوروبا والخليج)، بحيث كشفت النّقابة العامّة للأطباء عن تقديم 11 ألفًا و500 طبيب استقالاتهم خلال السنوات الثلاث الماضية، وهجرتهم إلى الخارج، مع تدنّي الرواتب في القطاع الحكومي، وفشل النّقابة في انتزاع أيّة مكاسب للأطباء ولمقدّمي الخدمات الصحيّة عمومًا، في ظلّ فقر الإمكانيات التي تُعاني منها مستشفيات الدولة، وغياب الدافع والتأمين للعمل في هذه الظروف، مع تمسّك الدولة بأنّ الظروف الاقتصادية هي التي تُعيق وضع "كادر" جديد لأجور القطاع الطبّي.
النتيجة المباشرة للإهمال المتعمّد للقطاع الصحي، هذا إن أهملنا أصلًا غياب وزير صحة منذ عدّة أشهر، هي تراجع مروّع في نسبة التغطية الصحية للمصريين، ليصل معدّل الأطباء إلى 8.5 طبيبًا لكلّ 10 آلاف مواطن في مصر، بينما تبلغ النسبة عالميًا 23 طبيبًا لكلّ 10 آلاف مواطن، ولا تزال الهجرة مستمرّة، والحكومة لن تسمع طالما أطبّاء المستشفيات الدولية والعسكرية متوفّرين وفي الخدمة.
والأزمة الأصعب أمام العالم العربي، أنّ تداخل عوامل الصراعات الاقتصادية مع تفشي كورونا جعلت من الخيوط كلّها تتشابك وتتعقّد، إلى حدّ أنّ الكيانات الاقتصادية الكبرى الأقرب جغرافيًا لنا تُعاني الأمرّين، وفوق الظروف الحالية الضاغطة، تقف الولايات المتّحدة، وتنتظر، لفرض المزيد من سياساتها المدمّرة، ونقل أزمتها الداخلية إلى الأطراف الأضعف في هذا العالم، كما فعلت وستفعل دائمًا.
وهذا الدور الأميركي القذر لا ينشط وينفلت سوى في أوقات الأزمات العالمية الكبرى، بهدفين اثنين لا ثالث لهما، الأوّل: ضمان استمرارها على رأس العالم اقتصاديًا، والثاني: نزح الفوائض من كلّ دول العالم إلى بنوكها وخزائنها، لحلّ أزماتها على حساب الجميع.
الأرقام الواردة عن الاقتصاد الأميركي تكشف عن أزمة عميقة، جعلت من نسبة التضخم تتجاوز 9.2%، للمرة الأولى منذ 4 عقود، وكلّ جهود الاحتياطي الفيدرالي لكبح التضخم باءت –حتّى اللّحظة- بالفشل، رغم لجوء البنك لرفع الفائدة 3 مرات منذ بداية العام، لتصل إلى 1.75%، والكشف عن نيّة رفعها عدّة مرّات أخرى.
ما ستفعله أسعار الفائدة الأميركية المرتفعة بالاقتصاديات العربية، التابعة تمامًا، هي ضربة ثلاثية من سحب الأموال التي تستثمر في أذون وسندات الخزانة الحكومية (الأموال الساخنة)، والتي ستجد أنّ الاستثمار في الولايات المتحدة أكثر ربحًا، ثمّ زيادة أعباء الديون الخارجية، والتي ستترجم في مزيد من العجز والاختلال للموازنات العامّة، وأخيرًا ستكون ضربة هائلة موجّهة لقيمة العملات المحلية، والتي ستدفع بدورها نحو مزيد من التضخم.
بالنّهاية فإنّ الجميع سيدفع ثمن إعادة تنشيط الاقتصاد الأميركي المنهك، وفي عالمنا العربي المنكوب، فإنّ الفقراء وحدهم هم من يتحمّلون الفواتير المرّة، فواتير العجز وانعدام الكفاءة وغياب الإرادة.
إنّ الضّرورات العليا لمصالح الأمَم ومسيرتها لا تفرضها أزمات مفاجئة، مهما بلغت تلك الأزمات أو وصلت، بل تضع هذه الأزمات الفرصة للتذكير بالأولويّات الوطنيّة الكبرى، والتّأكيد عليها، وأزمة الأمّة العربية اليوم ليس التقدّم عبر بديل قابل للتحقق، لكنّه في غيبة هذا البديل القابل للتحقّق، القادر على المواجهة والنّجاح.