أحمد فؤاد
رغم أنّ تعامل العالم، حكومات وشعوب، مع أزمة تفشّي فيروس "كورونا"، بدأ منطقيًا ومقبولًا، خلال الأعوام الثّلاثة الماضية، والتي شهدت ذروة الانتشار والوصول إلى قمّة مؤشرات الإصابات والوفيّات، إلّا أنّ العام الحالي قد يشهد المواجهة العالميّة المؤجّلة مع القضيّة الكبرى بالنّسبة للفيروس العنيد.
ما نجحت فيه الدول ببساطة كان تناول أو التعامل مع التداعيّات المباشرة والسّهلة للفيروس، من توفير اللّقاحات إلى دعم القطاع الصحّي والمستشفيات، وتوفير مستلزمات الوقاية والعلاج، ووصولًا إلى محاولات حثيثة لإعادة عجلات الاقتصاد للدّوران بعد فترة من التضخّم وكبح النّشاط، وهي كلّها شظايا متناثرة من الكتلة الحرجة الضّخمة للأزمة، وهروبًا إلى الأمام من السؤال المعقّد، من هو الطّرف المُستفيد من أزمة كورونا.
وللإجابة على هذا السؤال الملح، يجب العودة أوّلًا إلى الأرقام، وحدها مجرّدة بلا توجّهات، ووحدها لا تعرف المجاملة أو النّفاق، وقراءة حجم سوق الأدوية العالمي، واللاعبون الأهم في هذه السوق الواسعة والضّخمة، والدول الكبرى التي تسعى لفرض هيمنتها وكلمتها على مصير العالم.
في البَداية فإنّ شركات الأدوية تتعامل مع سلعة تخصّ حياة الإنسان ومرضه، وبالتّالي فهي واحدة من الصناعات الإستراتيجيّة الأهم على الإطلاق، وفوق أهميّتها، فالدواء سلعة لا تتمتّع بالمرونة، أي أنّه كلّما زادت أسعارها فالمنتظر هو ثبات الطّلب على الأقل، أو زيادته غالبًا، وهذا ترجمة لحقيقة أنّ الدواء ليس رفاهيّة يستطيع الإنسان التوقّف عنه أو تقليل استهلاكه منه، وفي الأخير، فإنّها واحدة من الصّناعات التحويليّة الضّخمة مرتفعة القيمة المضافة، أي أنّ أرباحها مرتفعة للغاية مقارنة بتكاليف تصنيعها، وهي من القطاعات النّادرة التي شهدت استفادة مروّعة من انتشار فيروس كورونا.
لكن الغريب في قصّة صناعة الأدوية في العالم إنّها واحدة من الصّناعات الاحتكاريّة المغلقة، تتركّز في عدد قليل من الشركات التي تستطيع إنفاق مبالغ هائلة وقياسيّة على البحث والتّطوير واجتذاب أهم العقول من كافّة أنحاء العالم، ثمّ تسجيل براءة الاختراع، والتي تُغلق الطّريق على منافسيها في الاستفادة من مجهودها لمدّة 20 عامًا، وتتواجد الشّركات الكبرى موزّعة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة التي تستحوذ وحدها على 30% من سوق الدواء العالمية، ثمّ أوروبا الغربية التي تليها بنسبة مقاربة، وأخيرًا اليابان بنسبة أقل من 20%.
وتمنح قواعد براءات الاختراع الدول الكبرى ميزة تنافسية هائلة في وجه أي منافسة مُحتملة، إذ تعدّ مرحلة البحث والتطوير غير ممكنة إلّا للدّول الكبرى والتي تمتلك أصلًا أسواقًا داخلية وخارجية تضمن لها تسويق إنتاجها في سنوات الإنتاج الأولى، وبالتالي فإنّ دولة صاعدة بقوة مثل الصين، ورغم إنّها تضمّ نحو 1/5 سكان العالم، إلّا أنّ نصيبها من صناعة الدواء العالمية لا يتجاوز 1.5%، رغم النمو في السنوات الثلاث الماضية.
كما أنّ الإنفاق على البحث والتّطوير يعدّ حلمًا لبعض الدول، إذ يتجاوز نصيب قطاع الدواء 15% من مخصّصات البحوث العلمية في العالم، متفوّقًا على نظيره في قطاعات تكنولوجيا المعلومات 10.6% والسيارات والمحرّكات 5.9%، وتنفق الولايات المتّحدة 58% من إجمالي الإنفاق العالمي على بحوث وتطوير الدواء.
ويبلغ حجم سوق الدواء العالمية نحو 1.5 تريليون دولار، بعد أن كان 1.11 تريليون دولار في 2018 –قبل أزمة كورونا- وتتركّز أكبر الشّركات في الولايات المتّحدة وأوروبا، وطبقًا للتصنيف العالمي لأكبر شركات الأدوية من حيث قيمتها السوقية في 2021، تتصدّر شركة جونسون آند جونسون الأميركية قائمة شركات الأدوية، تليها بالترتيب شركات روش (سويسرا)، فايزر (الولايات المتحدة)، إيلي ليلي (الولايات المتحدة)، نوفارتس (سويسرا)، آبفي (الولايات المتحدة)، ميرك آند كو (الولايات المتحدة)، نوفو نورديسك (الدنمارك) أسترا زينيكا (بريطانيا)، بريستول مايرز (الولايات المتحدة)، بحسب شبكة فيجوال كابيتاليست الكندية المتخصّصة في الإحصاءات الاقتصاديّة.
هذا عن تركيز الصناعة، أمّا عن أرباحها، فإنّ أزمة كورونا تحوّلت إلى فرصة لا تفوّت للشركات الكبرى، وخلال العام الأوّل لانتشار الفيروس القاتل، حقّقت أكبر 50 شركة أدوية في العالم إجمالي إيرادات وصل إلى 851 مليار دولار، كما حقّقت الشّركات قفزات ضخمة في قيمتها السوقيّة، مثل شركة "إيلي ليلي" الأميركية، والتي ارتفعت قيمتها من 125 مليار دولار فقط في 2019 إلى 209 مليار دولار حاليًا.
وأوقع سباق البحث المحموم عن الأرباح الشّركات الكبرى في أزمات عدّة مؤخّرًا، أخرجت ما كان خافيًا من جوانب اللّهاث على الأسواق إلى العلن، إذ كشفت مجموعة "بيبل فاكسين ألاينس"، إنّ أرباح 3 شركات فقط، هي: مودرنا وفايزر وبيونتك تجاوزت 34 مليار دولار في 2021 وحده، بمعدّل يبلغ 1000 دولار كل ثانية واحدة، على خلفية اتّهام مودرنا لشركة فايزر الأميركية وشريكتها بيونتك الألمانية بانتهاك براءة اختراعها الخاص بعقار كورونا.
ومن قراءة الأرقام والحقيقة السّاطعة التي تشي بها، وهي أنّ المنافسة في هذه الصناعة حوّلتها إلى ما يشبه عصابات المخدّرات في أميركا الجنوبيّة، تستبيح كلّ شيء من أجل شلال المال المتدفّق من العالم إلى خزائنها، كما أنّها حوّلت من حكومات الدول الكبرى إلى تجمّع لرجال المال والأعمال، يُجيدون عقد الصّفقات بطول العالم وعرضه، لإقرار استمرار الوضع الحالي لسيطرتهم على رقاب بني البشر.
وحتّى إذا ما استبعدنا حديث المؤامرة عن الولايات المتّحدة، فيما يخصّ دورًا لها في بحث وتطوير فيروسات قادرة على الانتشار بين البشر، كما في معاملها البيولوجيّة العسكرية المكتشفة مؤخرًا في أوكرانيا، فإنّه ليس من المنطقي تجاهل المصلحة المجرّدة لواشنطن في فرض سيادة شركاتها على الكوكب، ونزح المزيد والمزيد من ثروات العالم إلى خزائنها وأسواقها.
وإذا كان الروائي الفرنسي الشهير، إلكسندر دوماس، قد صاغ ببراعة حكمة القرون في بلاده في صورة جملة قصيرة بليغة الدّلالة والمعنى "فتش عن المرأة"، كون أي حادثة كبرى، سياسية دولية كانت أم جناية فرديّة، تقف وراءها سيدة فاعلًا أو محرضًا أو سببًا، فإنّه يُمكننا القول باطمئنان: إنّه في أيّة كارثة عالميّة فتش عن الولايات المتّحدة الأميركيّة، فاعلًا ومجرمًا ومستفيدًا، وفتّش عن أصابعها وأذنابها في كلّ مأساة تمرّ بالبشريّة، من أوّل إشعال الحروب إلى الاستثمار في المرض والموت الأسود.