أحمد فؤاد
إنّ أخطر ما يواجه أمّة من الأمَم أن تَجد نفسها، فجأةً ودون داعٍ، هاربة من الإجابة عن سؤال المستقبل، ومستغرقة في البحث في الماضي عوضًا عن الانشغال بالحاضر، تعيش وتتنفّس في ماضيها الملكي، كما في مصر والعراق مثلًا، أو الاستعماري، كما في لبنان وسوريا، وتغيب بالتالي وكليًا عن يومها.
ربّما كانت التحديّات القادمة من الخارج، وتسارع الحوادث المثير، ضاغطًا بأكثر ممّا تحتمل الأعصاب، ومعبأ بأسباب القلق، فوق ما تُطيقه مجتمعات تحمّلت أوزار حكامها وأعدائها وظروفها على السواء، فتركوها تواجه المستقبل منهكة، مشروخة، وفاقدة الثّقة مقدمًا في كلّ ما يقال لها، أو كل ما يبذل لصالح بقائها ذاته.
أحدث ما جاء من كوارث، قبل فصل شتاء رابع تحت ظلال ورحمة فيروس كورونا، كان التحوّل الدراماتيكي في الصراع الجاري في قارة أوروبا، وتغيّر معادلاته من لحظة صدام عابرة بين قوى كبرى، إلى ساحة تصفية حسابات طويلة ومرهقة، وهو يحمل كلّ بذور وعناصر التحوّل إلى صراع عالمي في أي وقت.
لكنّه في الوقت الحالي يلقي بالمزيد من زيت المعاناة على نار الموقف الاقتصادي الكارثي للدول العربية، وتندفع أحداثه مثل قطار فائق السرعة، وفي حالة العجز العربي –المفهوم والمنطقي- في تغيير سير الحوادث، فإنّ القطار قادم، وبسرعة، والضحايا كثر، وأكثرهم قد أوثقت أيديهم وأقدامهم، ووضعوا مباشرة على القضبان، بانتظار ضوء القطار القادم حتمًا، ولا حلّ حتّى للأكثر عجزًا سوى في محاولة الابتعاد عن هذا الشرّ القادم من الخارج، والتحرّك –ولو زحفًا- خطوة بعد خطوة، بعيدًا عن الصّدمات المتتالية القادمة من أسواق المال العالمية.
وإذا كان المثل الإفريقي الشهير، "إذا تصارعت الفيَلة، فلا تسأل عن العشب"، ينطبق كما القفاز على حالنا التّعس، فاقتصاد منطقة اليورو، التي تدور في ساحاتها الصدام الأميركي الروسي، سجّلت أعلى نسب التضخّم منذ 3/4 قرن، أو تحديدًا منذ الحرب العالمية الثانية تقريبًا بكلّ دمارها وتكاليفها الإنسانية الأليمة.
في منطقة اليورو كشف مكتب إحصاءات الاتّحاد الأوروبي "يوروستات"، خلال الأسبوع الجاري، أنّ التضخّم في الأسعار بدول منطقة اليورو التسعة عشرة تسارع إلى 10 بالمئة في أيلول/ سبتمبر الفائت، وهو أعلى معدل منذ اعتماد العملة الأوروبية الموحّدة (اليورو)، مقابل 9.1 بالمئة فقط، في الشهر السابق.
وعزا مكتب الإحصاءات الأوروبي الارتفاع المذهل في التضخّم بكلّ دول الاتّحاد الأوروبي إلى أسعار الطاقة، ومخاوف تراجع الإمدادات مع قدوم الشتاء القادم، والذي يتوقّع أن يكون أكثر برودة من المعتاد، وزادت أسعار الطاقة بنسبة 41 بالمائة على أساس سنوي، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية غير المصنّعة بنسبة 13 بالمائة. أمّا بالنّسبة للمنتجات الصناعية والخدمات التي ترتفع أسعارها أيضاً، فبلغ معدّل الزيادة 5.6 و4.3 بالمائة على التوالي، ما يُشير إلى أنّ صدمة ارتفاع أسعار الطاقة تنتشر تدريجيًا إلى مجمل الاقتصاد.
والأزمة بوضعها الحالي، غير القابل للحلول، وأطرافها المصمّمين على الذّهاب إلى آخر المدى في التحدّي والعنجهية، فإنّ انعكاسها على الدول العربية قد ظهر مبكرًا جدًا، وجاء شهر أكتوبر/ تشرين الدافئ نسبيًا، ببرودة ديسمبر/ كانون الأول، والأمور مرشحة للأسوأ والأعنف.
في لبنان، التي تتعرّض عملتها لضغوط هائلة، أفقدتها 90% من قيمتها خلال أشهر قليلة، قالت وكالة "بلومبرغ" الاقتصادية، إنّ التضخّم فيها تفوّق على كلّ دول العالم، وقالت أحدث تقرير للوكالة عن أزمة التضخّم التي تضرب العالم، إنّه وفقًا لإدارة الإحصاء المركزية اللبنانية، فقد ارتفع مؤشّر أسعار المستهلك بنسبة 137.8% عن شهر أغسطس من العام السابق، مقارنة بـ123.4% في يوليو، موضحة أنّ أسعار المستهلك ارتفعت بنسبة 10.25% عن الشهر السابق، فيما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 20.82%.
التضخّم بالطّبع هو أكثر مؤشّرات الاقتصاد تماسًا مع حياة المواطن العادي، كلّ مواطن، وهو القادر على تمرير مستقبله بغلالة سوداء من التوقّعات والمخاوف، فضلًا عن ما يعنيه بشكلٍ مباشر من أنّ المال الذي يحوزه الشخص لن يكفيه لشراء الكمية نفسها من السّلع، وبالتّالي فإنّ العجز هو أوّل ما يقفز للذّهن عند الحديث عن التضخّم.
بالطّبع تعود الأسباب التقنية والعلمية للتضخّم إلى تفوق الطلب على العرض، وارتفاع نفقات الصناعة والزراعة والنقل، ما يؤدي مباشرة إلى زيادة الأسعار، وهناك عوامل خارجية للتضخّم كارتفاع أسعار المواد الأولية، مما يؤثّر على ميزان المدفوعات وبالتالي على استقرار العملة المحلية، لتستمر الدائرة الجهنمية نفسها من الغلاء ثمّ العجز ثمّ أزمة العملة، وهكذا إلى غير توقف.
ما تحتاجه الأمّة العربية، الآن وبشدّة، لملمة شتات ما تبقى من نفسها، وإعادة اكتشاف آليات وطرق للتكامل الاقتصادي بينها، ورفع القيود الجمركية –حتّى عن الأغذية والمحروقات أولًا- وإعادة الاعتبار لعملية اندماج اقتصادي عربي، يجعل من حاجات الشعوب الأساسيّة نقطة مضمونة، وإلّا فالطوفان القادم لن يستثني أحدًا، فالدول البترولية مستوردة للغذاء، والدول التي تمتلك الوفرة في قطاع ما، يعجزها غياب الإمكانيّات والبدائل في 10 قطاعات أخرى.