أحمد فؤاد – صحافي مصري
"التّاريخ يكتبه المنتصرون"، هذه الجملة التي مرّت تكرارًا على أسماعنا، وعلى أسماع كلّ شخص على ظهر الكوكب تقريبًا، تثبت وحدها زيف هذا التّاريخ الذي كتبه المنتصرون، فالجملة البسيطة التي تحوّلت من فرضية وأداة تحليل للقراءة النقديّة للتّاريخ ناقصة بشكلٍ يجعلها هي الأخرى واحدة من الحقائق المضلّلة التي فرضها المنتصرون.
الواقع الذي نعيشه اليوم يقول أنّ التّاريخ والحاضر والمستقبل يكتبهما المنتصر وفقًا لما تُمليه مصالحه، وأنّ الدّافع الإنساني وراء التّاريخ وأفعاله الكبرى وذروتها، أي الصّراع، هو المصالح، وبدونها لا سبب أساسي يدعو المجتمعات إلى الصّدام الهائل، وتقديم التّكاليف البشريّة والمادية لحروب ونزاعات، تكون نتيجتها مقدّمًا نوعًا من أنواع الرّهان، أو الذّهاب إلى المجهول.
وإذا كان تاريخ البشر هو سلسلة متتالية من الصّراعات، بلغت ذراها العالية المُشتعلة بالنّار والمُعمّدة بالدّم في الحرب العالمية الثانية، بين حماقات وغرور القوى الفاشية، وخبث القوى الغربية المُسيطرة –آنذاك- على كلّ ثروات العالم تقريبًا، فإنّ هذه الحرب تحديدًا هي التي كتبت فصولها الواقع العالمي اليوم، كما فرض علينا أن نعيشه من جانب المنتصرين.
لذا، يكون من الواجب على الفرد منّا، في إطار بناء وَعيه الذّاتي، العودة كلّ فترة إلى ذلك الميدان لقراءة جديدة، تتابع تلك القصص الشّاردة وغير المكتملة، وتحاول أن توثّق لها وتستعيد بالتّفاصيل وقائعها، وتتعرّض للمواقف ودوافعها، وتتحرّى أدوار المصالح المتشابكة والمظلمة في مآلات ذلك الصّراع الثّري، والأهم: أن تربطها بما بعدها، أي بالعالم الذي نراه اليوم، ويؤثّر علينا في أبسط جزئيّات حياتنا اليوميّة.
من هذه القصص المُثيرة، والتي دخلت عمدًا إلى دائرة النّسيان والتّجاهل، قصّة الوحدة اليابانيّة المُرعبة 731، والمعروفة اختصارًا بـ "دائرة كيمبايتاي"، وهي وحدة متخصّصة ضمن الجيش الإمبراطوري الياباني، تخصّصت في البحث والتّطوير للأسلحة الكيماويّة والبيولوجيّة، وخلال 13 عامًا هي عمرها الرّسمي، أجرت الوحدة آلاف الأبحاث المختصّة بنشر الفيروسات والطاعون بين أكبر عدد ممكن من البشر المستهدفين، وكان لها السبق في إجراء أوّل التّجارب على البشر فيما يخصّ الأسلحة البيولوجيّة المتخصّصة، وكانت الدّول التي تحتلّها اليابان قبل الحرب العالميّة الثّانية، مثل الصّين، هي الفضاء الواسع الذي احتضن أبشع جرائم هذه الوحدة وتجاربها المُرعبة.
ما نشر من جرائم هذه الوحدة، رغم أنّه جرى التّعتيم على أغلب تجاربها التي استمرّت فترة طويلة جدًا، يحمل الوجع إلى ضمير كلّ حي ووجدان أي إنسان، القسوة والسادية والجنون وتحقير الإنسان وامتهانه هي العناوين الأساسيّة التي كانت تؤمن بها دائرة كيمبايتاي، وهي كمنتوج لنظام فاشي، كانت تحتقر أي كان من غير جنسها، وتتعمّد وضعهم في دائرة "دون البشر" لتبرير جرائمها التي تقشعر منها الأبدان والنّفوس.
في الصين على سبيل المثال، تسرّبت أخبار واحدة من تجارب الوحدة 731، عقب نهاية الحرب وإنهاء الاحتلال الياباني لها، عن تطوير الفيروسات الحاملة لأمراض الطاعون الدبّلي والطاعون الرئوي وغيرها، وإجبار السّجناء على اغتصاب بعضهم البعض لتسريع انتقال الطاعون، ثمّ تعريضهم لفترة اختبار طويلة، مؤلمة ومذلّة، حتّى يقرّر الأطبّاء إنّهاء حياة الضحايا بالجملة، وصفهم في طاولات متجاورة لسحب دمائهم حتى الموت، ومن ثمّ، استخدم اليابانيون النّاقل البدائي الأوّل للأمراض، البعوض، الذي يمتص هذه الدّماء، ووضعوه في عبوات ضخمة ألقتها الطائرات على قرية كوزهو في إقليم يبوو، يوم الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر 1940، وتسبّبت القنابل الجرثومية في وفاة ألفي شخص من سكان القرية، كما لقى ألف شخص آخر من المقاطعة حتفهم، قبل أن تجرب القوات اليابانية في العام التالي الجمرة الخبيثة، ليلقى 6 آلاف من سكان المنطقة حتفهم.
وبشكلٍ عام، شهدت الصّين في فترة الاحتلال الياباني لها، تعرّض آلاف الرّجال والنّساء من المزارعين البسطاء، غالبًا، لعمليات جراحيّة تشمل بَتر الأطراف أو الحقن بأمراض قاتلة أو دراسة آثار تغيّر الحرارة على الجسم البشري، دون تخدير على الإطلاق، وكان يجري دفن الضّحايا وهم لا يزالون أحياء عقب انتهاء التّجارب، توفيرًا للذّخيرة.
ورغم أنّ القائمين بالعمليّة كانوا أطباء، إلّا أنّ الوحدة اليابانية الشّهيرة، والتي ولدت كفكرة للجنرال شيرو إيشي كانت جزءاً رسميًا من الجيش الياباني، بمباركة الإمبراطور هيروهيتو، الذي وقّع قرار ضمّ الوحدة 731 إلى جيش كوانتونغ الياباني، العامل في الأراضي الآسيوية التي استولت عليها قواته.
لكن، تلك الكلمة السحريّة الغامضة، لم تكن الجريمة الكبرى التي جرت في قصة دائرة كيمبايتاي سوى أميركيّة الصنع والإخراج.. فعقب هزيمة اليابان ونهاية الحرب العالميّة الثانيّة، وأمام أطنان التّجارب والوثائق والأفكار المذهلة للوحدة اليابانية، قرّر الأميركيون منح أفرادها الحصانة والتّعتيم على كلّ ما جرى، مُقابل الحصول على هذا الكنز الثّمين من أفكار اعتبروها "مستقبليّة"، لصناعة أسلحة تقتل ولا تجرح، تبيد ولا تدمّر، فيما لو قرّروا شنّ حروب بدون رصاصة واحدة.
أفلت الطبيب شيرو إيشي من الملاحقة، مات عقب سنوات طويلة من الحرب على سريره، كما عاد كلّ أطباء وباحثي الوحدة إلى وظائفهم المدنيّة، وبكامل ميزاتهم وصلاحيّاتهم قبل الحرب، وكأن شيئاً لم يكن، ولم يقدّموا في مقابل ما اقترفت يداهم سوى "وعد الصمت" الذي قطعوه للأميركيين، ولولا إجراء هذه التّجارب في مناطق خرجت عن سيطرة اليابان فيما بعد الحرب، لظلّت أحد طلاسم التاريخ وزواياه المظلمة.
لم يكتب الأميركي في نهاية الحرب العالمية الثانية التاريخ كعرق أبيض متفوّق، ولم يجن القيادة العالمية في عالم بعد الحرب وحسب، وإنّما حقّق مصالحه كاملة، فيها وخلالها وبعدها، وحتّى اليوم لا يُمكن تصوّر أنّ حمى فيروس كورونا –مثلًا- قد تخرج من غير مختبر أميركي أو بتخطيط أميركي، كان يريد –ولا يزال- وقف النمو الصيني الاقتصادي، الذي يتجاوزها عامًا بعد الآخر، ويهدّد بكسر آخر جزء من أجزاء سيطرتها على العالم "الدولار".
ويبقى من باب التّغافل أو الغفلة، أن يظن إنسانًا يرى تصرّفات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وتصميم مجلس إدارته على تصدير التضخّم والأزمات الاقتصاديّة إلى دول الأطراف الأقل قدرة على مقاومة ضغوط أسواق المال العالميّة، برفع الفائدة على الدولار لمستويات قياسيّة، ولا يدور في باله أنّ الولايات المتّحدة، وفي الجانب المُظلم، قد تقرّر فعل ما نعجز عن تخيّله أو فهمه لاستمرار تربّعها على قمّة العالم.
بتلك القراءة الواعية والربط بين ما كان وما سيكون، وفقط، تستطيع الأمّة العربيّة –ضمن دائرة أوسع تشمل شعوب العالم الثالث- أن تضمن حدوث تلك اليقظة الحضارية المطلوبة، والحتميّة، تعبّر عنها سياسة واضحة وفعل إرادة قوي قادر، وتعبر إلى عصر جديد مالكة لإرادتها، وممارسة لتجربتها مع العالم والآخرين، تقدّمًا وتراجعًا، وتتحوّل إلى لاعب على السّاحة العالميّة المشتعلة بالفعل، قبل أن تسقط تمامًا ونهائيًا لتكون الكرة التي تتقاذفها الأقدام، ويركلها اللاعبين الأساسيين، أو حتّى البُدلاء.
والشّرط التّاريخي الحالي، والذي نعيشه كأمّة عربيّة، هو أصلًا اختلال تاريخي هائل في توازن القوى وعدالة الظروف، بين الغرب عمومًا –وفي قلبه واشنطن- وبين الدول الأقل تقدّمًا، هذا من جهة، والفقراء الكادحين من جهة أخرى، ثمّ انتزاع القدرة على الفعل والقدرة على التّأثير والقدرة على التّغيير من يد مواطني البلدان المستهدفة، مع نزعها في الوقت ذاته من حكوماتهم ونظمهم السياسيّة، وبالتّالي تتحوّل الدول والأفراد إلى كيانات هامشيّة وأطراف مكشوفة تمامًا، وليس أمامهم سوى الاستسلام الكامل، في انتظار المنة والهبة من السيد الأميركي بقبول توقيعه على عقد إذعان كامل لإرادته.