أحمد فؤاد
تواتَرت خلال الأيّام والأسابيع القليلة الماضية عدد من الأحداث الفارقة والمؤثّرة على المنطقة العربيّة، فيما يُشبه قِمم الجبال الجليديّة الضّاربة في أعماق المُحيط، يلفّها الظّلام والصّمت، ولا يظهر منها سوى جزء يسير واضح فوق خطّ المياه المُظلمة، لكنّه أكثر من كافٍ لتعويق مسيرتنا وإضافة المزيد من الآلام على واقع الحياة اليوميّة للإنسان العربي.
وحتّى هذا الجزء الفاضح، تجتهد أبواق عربيّة لمحاولة إبعاد كلّ ضوء عنه، ورمينا –نحن- بالتّخاذل أو الفشل والعجز، وإبراء ذمّة السياسة الغربيّة والأميركيّة من خلق الأزمات وتصديرها إلينا، ونَسج خيوط المؤامرة والحصار والخَنق على عُنق الأمّة الهش، وإضافة المزيد والمزيد من الزّيت إلى ظرف عالمي مشتعل وفي خِضَم أزمة اقتصاديّة عالميّة تَزيد وتنتشر، وليس لها في الأفق نهاية ما، قريبة كانت أم بعيدة.
خلال الأيام الحالية لا صوت يعلو على صوت المأساة السورية في أعقاب الزلزال المدمّر الذي ضربها وتركيا، لكن بتباين هائل في استجابة العالم لأصوات المنكوبين في تركيا، مقابل صمت غربي ودولي على الكارثة التي تجري في سوريا، وتتضافر فيها عدّة عوامل تجعلها بين الأقسى في التاريخ الإنساني، وهو الحصار الأميركي الخانق، والمستمر منذ 2011، إضافة إلى تبعات جائحة كورونا، ثمّ الأزمة الماليّة العالميّة، وأخيرًا التضخّم العالمي الذي ضرب أسعار مستلزمات الحياة والبقاء، القمح والبترول وغيرها.
ومع تنبهّ العقل العربي أخيرًا إلى حتميّة كسر هذا الطّوق الجهنّمي المفروض على الشّقيقة الأعزّ سوريا، والهجوم الذي بدا لا مفرّ منه على قانون قيصر الأميركي، تعاملت واشنطن مع التحدّي القائم بما تعرفه من أدوات إعلاميّة أشبه بالشياطين والأوثان، وأصدرت يوم العاشر من شباط/ فبراير الجاري ما قالت إنّه استثناء إنساني! لتمكين سوريا من التّعامل مع آثار الأزمة الناجمة عن الزلزال.
وزارة الخزانة الأميركيّة أعلنت عن "رخصة استثنائيّة عامّة" من قانون قيصر تحت اسم "GL23" لمدّة 6 أشهر فقط، لكنّها كأيّة خطوة أميركيّة إلى الوراء لا تمنح إلا السّراب الخادع والذّخيرة الجاهزة لمعركة جديدة تجري على الوعي العام والوجدان الجمعي للعالم العربي، الذي يحلو له أن يتناسى الشيء الوحيد الذي قدّمته له يد الشيطان الأميركي على مدى عقود طويلة مريرة.
ما قدّمته واشنطن بالفعل هي أنّها استبعدت الأموال المحوّلة إلى سوريا من بند الحظر وطائلة العقوبات، لكن هذا الأمر لا يتعلّق بالحكومة السورية الشرعيّة، ولا يسري على البنك المركزي السوري، وكذلك لا يمتدّ إلى مؤسّسات وجهات الدّولة السورية، كذلك ينبغي على الأطراف التي تُريد تحويل الأموال إثبات أنّها تتعلّق بغرض وحيد هو تسهيل جهود الإغاثة المتعلّقة بالزلزال، وفقط، وبالتّالي فإنّ أيّة جهة مالية أو أهلية ستُبادر بتقديم يد العون والمساعدة للشّعب السّوري، ستبقى مستقبلًا تحت طائلة المُساءلة أو حبل العقوبات الأميركيّة، بعكس أي مبدأ قانوني أو إنساني يقول بأنّ المتّهم بريء حتى تَثبت إدانته، وليس العكس.
الاستثناء الأميركي جاء فقط تحت بند الاستجابة لحملة إعلامية، تُريد أن تفضح المسؤول عن الدّم السّوري والألم السّوري، وتُحاول جهدها أن تفضح زيف المنظومة الغربية الأخلاقية بجملتها، وهي تريد إعادة توجيه عقارب الساعة إلى الوراء، ومحاولة تصدير إتهام جاهز للدولة السورية بأنّها أقلّ كفاءة ومسؤوليّة في مواجهة آثار الزلزال وتداعيّاته الإنسانيّة الهائلة.
لا تتعلّق التداعيّات فقط بالجرحى ممّن لا يزالون تحت الأنقاض، أو المُصابين الذين تمّ إخراجهم بالفعل إلى مستشفيات لم يترك لها الحصار إمكانيّات المواجهة الواسعة مع مأساة وطنيّة بهذا الحجم، لكنّه يتعلّق أيضًا بالملايين ممّن تشرّدوا وهدّمت حياتهم وبيوتهم وأرزاقهم في لحظة، وهؤلاء كتلة مشحونة بكلّ الاحتمالات، ولا تريد أميركا بالطّبع تفويت الاستثمار في الدّم، كعادتها ودأبها معنا.
على الجانب العربي، ورُغم أنّ التّاريخ الإنساني عمومًا قد حمل في طيّاته وبين دفاتر حكاياته أنواعًا من القوى الخفيّة التي تحكّمت في القصور والحكّام وفيما بين القصور وبعضها البعض في دوَل أُخرى، وأطبقت على مفاصل الحركة أمام النّخَب العُليا والمُسيطرة لأمّة واحدة أو لعدّة أُمَم، إلّا أنّه بالتّأكيد سيقف التّاريخ مشمئزًا حائرًا أمام هذا النّوع الجديد من الحكّام في العالم العربي، أو بتوصيف أدق الغلمان.
ربّما لن يكون تجاوزًا لو ذهب العقل إلى اعتبار سوريا القلب النّابض للأمّة العربيّة كلّها، القاطرة التي تستطيع وحدها جرّ العربات فوق القُضبان، وتوجيهها وتحريكها، لكن هذه الحقيقة البسيطة لم تشفع لسوريا في أن تكون نُقطة فارقة في سياسات الأنظمة العربيّة تجاه واشنطن وسيف عقوباتها المرفوع والمستمر ضدّ دمشق، وجلّ ما استطاع إليه البعض سبيلًا هو إرسال مساعدات تافهة في مواجهة كارثة وطنيّة وقوميّة شاملة، لدولة لم تقف يومًا عن مساندة أشقّائها ودعمهم بكلّ –وأي- صورة ممكنة، مهما بلغ مخاطر هذا الدّعم أو تبعاته.
إنّ أخطر تحدّي قد حمله الحصار الأميركي على سوريا، المتمثّل في قانون قيصر الصادر 2020، والذي أعقب حصارًا من نوع آخر وهو جائحة كورونا، هو أنّه دهس عالمنا القديم بجملته، ثمّ عجزنا نحن -العرب على الأقل- في أن نبني عالمًا جديدًا لنا وللمستقبل، وبين عالم طَوي وآخر عاجز أن يولد، توقّفنا، ويُراد لنا الآن أن نرفع رايات الاستسلام.