(احمد فؤاد\ / كاتب صحافي مصري)
بعض الأماكن والشخصيات، حين ترد في خبر أو حديث، تفتح المجال فورًا لسفر من نوعٍ خاص، سفر عبر ملفات الذاكرة المحفوظة، وكلما كان الحديث صادما، محزنا، كانت العودة رحلة أصعب وأشد وجعًا، رحلة إلى أعماق أزمة.
خبر مؤلم عن حادث مروع في مستشفى منشية البكري، الضاحية المصرية الصغيرة جدًا، والهادئة جدًا جدًا، كفيل باستدعاء أطنان من الذكريات، بفعل كونها كانت مقرًا لمكتب ومنزل الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، الساكن في وجدان شرفاء شعبه، كما الوجع الجاثم على صدورهم من الوباء الجديد، بفعل طريقة تعامل "الدولة" مع آلام الناس ومشاكلهم.
في مستشفى منشية البكري، المنسية كما البلد، واجهت الدولة حالة تفشي فيروس كورونا المستجد بين الطاقم الطبي، بتحويلها إلى مستشفى للعزل، وطبقًا للأطباء فإن القرار صدر بدون توفير الحد الأدنى المطلوب من الملابس والكمامات الواقية.. هكذا تصرفت وزارة يُفترض بها المسؤولية عن مواجهة هذا الوباء في مواجهة الأطباء المصابين، وأعدادهم بالأصل قليلة.
كما كرسي عبد الناصر الحزين المهجور، تلحق المستشفى كمثال واحد به إلى مجرد كلمات في خبر، لا يلبث أن يأتي بعده آخر، لتنزوي الكارثة إلى النسيان.
"غسيل اليدين" هي الطريقة الجديدة التي قررت الحكومة المصرية التعامل بها مع الأزمة، الخدعة الرومانية القديمة ذاتها عادت لأذهان الطبقة الحاكمة، في مواجهة أخطر التحديات في مواجهة شعب فقير، ونظام صحي أفقر من الفقر ذاته.
عدم الالتزام والإهمال هي الكلمات الأكثر ترددًا على ألسن مسؤولي الحكومة، مع زيادة في أعداد الضحايا، يعرف أصغر طفل، كما يؤمن كل شخص في هذا البلد أنها أقل من الأرقام الحقيقية، والحكومة هنا لا تراوغ، بل عدّلت البروتوكولات المتبعة للكشف والخضوع لفحص الفيروس، حتى بالنسبة للأطقم الطبية، لتحاول ستر صورة، هي أقرب لعقارب صدئة، في ساعة قديمة تكاد من قدمها تخاصم الوقت، على حائط يريد -كله على بعضه- أن ينقض.
بداية، فإن الفيروس القاتل لم يحل علينا فجأة، بل كان القدر رحيمًا، إذ ظل جرس الإنذار يدوي شرقًا وغربًا قبل أن ينزل بمصر، استمرت الحكومة في فتح أجوائها للرحلات السياحية، حتى وقعت الواقعة، وبدأ الوباء في الانتشار، ثم ادعت إنها "تسبق كورونا بخطوة"، في واحد من حلقات مسلسل التصريحات الكوميدية السوداء.
وللأرقام الخاصة بالصحة المصرية، أو المرض بشكل أدق، أهمية بالغة، إذ دخلت الكوادر الطبية إلى المعركة بلا سلاح، وبدا وصف "الجيش الأبيض" الذي تطلقه وسائل الإعلام الحكومية على الأطباء وهيئة التمريض مدعاة للسخرية، بلا سلاح دخلوا المعركة، وكانوا –منطقيًا- أول وأكثر ضحاياها، لا يمر يوم دون أن يخرج نبأ إصابات ووفيات جديدة بين أعضاء القطاع الصحي.
تعد مصر بين أفقر دول العالم، وأقل الدول العربية تمتعًا بالخدمة الصحية بالنسبة لعدد السكان، ويمثل القطاع الصحي طاردًا للكفاءات الطبية والكوادر، وبالطبع يأتي الخليج على رأس مستقبلي الأطباء والممرضين المصريين، فيما يتواصل إفشال المستشفيات ومؤسسات الصحة المصرية، لصالح القطاع الخاص، ورغبة في منح الاستثمارات الأجنبية فرصة المتاجرة بالصحة والتكسب بمرض المصريين.
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء "حكومي" يقول إن مصر تقبع في الترتيب 89 دولياً من بين 138 دولة في مؤشر تحقيق المتطلبات الأساسية من الصحة والتعليم الأساسي طبقًا لبيانات عام 2017.
وفي نشرة البنك الدولي 2017 عن الخدمة الطبية في العالم، المزيد من التفصيل، إذ تكشف عن عدم تخطي نسبة الأطباء لكل 1000 من السكان نحو 0.8 فقط في مصر، بينما تصل في ألمانيا إلى 4.2 طبيب، أسبانيا 4.1، إيطاليا 4.1، الأردن 2.3، الجزائر 1.8 طبيب لكل 1000 مواطن، أي أن النسبة المصرية أقل من النصف بالدول العربية.
وتتسع الفجوة أكثر في قطاع التمريض، إذ تصل نسبة التغطية في مصر إلى 1.4 ممرض لكل 1000 مواطن، وفي الدول العربية تصل النسبة في قطر إلى 6.7، والسعودية 5.7، الأردن 3.4، تونس 2.2، ممرض لكل 1000 مواطن.
وطبقًا للنشرة فإن 60% من المستشفيات الحكومية تفتقر للخدمات الأولية للرعاية الصحية، ونقص فى أجهزة الأشعة والأسرة والأدوية، وهناك 120 ألف مريض على قوائم الانتظار، رغم حاجتهم لإجراء عمليات جراحية عاجلة، للقلب المفتوح أو المياه البيضاء، أو حاجتهم لتركيب أطراف صناعية.