د. سحر حمود - استاذة في الجامعة اللبنانية
عندما نتطرق في حديثنا اليومي الى كلمة "ثقافة" فغالباً ما يتجه تفكيرنا الى المستويات الإبداعية في الفكر الإنساني مثل الفنون، الادب، الموسيقى، والرسم. الا ان هذا المصطلح إضافة الى ذلك فهو يعني العديد من الجوانب الحياتية، فهو أسلوب الحياة التي ينتهجه أعضاء مجتمع ما او جماعات داخل المجتمع ويشمل اللباس، التقاليد، أنماط الحياة العائلية، اشكال العمل، الاحتفالات، وغيرها من التفاعلات اليومية للفرد. وهذه الثقافة على الرغم من ثباتها وديمومتها الا انها عرضة للتغير المستمر على الدوام. واي تبدل يطرأ على البنية الكامنة وراء ظاهرة او حدث ما يستدعي منا ان نستقصي درجة التعديل لاسيما ذلك النوع الذي يتميز بأنه قسري ومقصود.
فما هي التغيرات التي طرأت على ثقافتنا، وما هي مجموعة القيم والمعايير التي احدثتها جائحة كورونا في منظومة افكارنا لتعيد رسم مسارات تفاعلاتنا اليومية، وتوجهنا نحو سلوكيات جديدة إزاء ما يحيط بنا من مخاطر وتحديات؟
على صعيد تفاعلاتنا الاجتماعية، فبعد ان كانت تشمل كل أنواع اللقاءات "غير المركزة" كحال الشوارع المزدحمة او الجمهور في قاعات السينما والاحتفالات وغيرها من الاتصالات الوجاهية الروتينية مع البائعين في المحلات والعاملين في المطاعم وما الى ذلك. أصبحت اليوم تتجه نحو اللقاءات "المركزة" و"المقصودة" وفقاً للضروريات المستجدة لدى الفرد. فلم يعد التسوق متعة لتمضية أوقات الفراغ، ولا حتى اللقاءات الصباحية مع الجيران. حتى زيارة المطاعم وأماكن التسلية فقد اكتشفنا انها "ثقافة ترفيه زائفة"، وأصبح الخروج الى الشارع يقتصر على تأمين الاحتياجات المعيشية الأساسية من مأكل ومشرب وعمل وطبابة طارئة...
اما بما يخص أنماط حياتنا العائلية، فبعد ان كنا ننتظر نهاية الأسبوع والأعطال الرسمية للتواصل العائلي والمشاركة في أنشطة عائلية، فقد استطاعت جائحة كورونا ان تعيد الالفة العائلية سواء لدى العائلة النواتية من خلال مكوث افراد الاسرة وتكاتفهم معاً، او العائلة الممتدة التي تكثفت الاتصالات اليومية معها بفعل وسائل التواصل الاجتماعي للاطمئنان على الأحوال والمستجدات الصحية لديها. وهذا ما أكد بدوره أهمية الروابط العائلية بتخطي هذه الازمات بجوانبها الصحية والاجتماعية والاقتصادية. وأصبحت الاسرة خط الدفاع الأول في حماية افرادها وتأكيد الوعي الصحي ضمن مهامها في التنشئة الاجتماعية، بعد ان كانت تشكل هاجساً لدى العديد من المؤسسات والجهات المعنية التي كانت تدّعي تفككها وانهيارها.
ونأتي بعد ذلك الى الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية سواء الحزينة منها ام المفرحة. فكم شكل البذخ المبذول في هذه المناسبات جزءاً من عادات وتقاليد العديد من الاسر والتي بدورها اثرت على شريحة مجتمعية معدومة اقتصادياً أدى التزامها بهذه العادات الى العديد من المشاكل المرافقة.
فاليوم عند وفاة شخص عزيز، نقدم واجب المواساة والعزاء لأفراد اسرته مع الحفاظ على "فضائهم الشخصي" أي المسافة المسموحة للاقتراب منهم، والتي غالباً ما كان يتخطاها العديد من الافراد بزريعة الاهتمام والتقارب الشخصي. إضافة الى ان اهل الفقيد أصبح لديهم الوقت الكافي للقيام بالصلوات التي تهدى لراحة الميت، وأصبح بمقدورهم مساعدة العديد من الاسر الفقيرة بالتكاليف التي كانت تُخصص لهذه المناسبات. وينطبق ذلك على الافراح واعياد الميلاد والمناسبات التي بتنا كل يوم نتفاجىء بها وبتسميات لم يسبق لنا معرفتها.
فهل سنبقى نتبنى هذه التغيرات ما بعد مرحلة كورونا، وهل سيتحول التواصل الالكتروني الى حاجة يومية بديلة عن التفاعل المباشر غير الضروري؟ انها الثقافة البديلة التي سيقرر مجتمعنا تبنيها او عدمها..