خاص كورونا نيوز
عُرف لبنان بجبروته وصموده بوجه الشدائد والمصاعب التي عصفت به وقد أخذ من الأرزة شعاره رمزًا للصمود والعنفوان. فرغم الويلات والكوارث والحروب التي عاشها، استطاع أن ينهض وينفض عنه الغبار، إلا أنه وفي سابقة من نوعها شاء القدر أن يقع المجتمع اللبناني ببلاءين: الأول، وباء يهدد حياة ساكنيه كما العالم أجمع بالموت، والثاني مالي اقتصادي يرخي بظلاله على شرائح مجتمعه كافة ويهددها بالفقر والعوز.
ينهمك العالم كلّه بمرض "الكورونا" ويتخبّط بأرقامٍ مخيفةٍ من الإصابات والوفيات، وها لبنان ينضم إلى هذه القافلة حاصدًا انتشارًا واسعًا في الإصابات مع تسجيل بعض الوفيات. ولكن لبنان ليس كباقي الدول لأنه لا يملك ما تملكه تلك من إمكانيات وأماكن استشفائية ومستلزمات طبيّة من جهة، ومن جهة أخرى، فهو يغرق في مشكلات اقتصادية ومالية جمّة تفرض واقعاً مريرًا داخل مجتمعه.
رغم كل الظروف المعاكسة، تواجه الحكومة اللبنانية هذا المرض بما تيسّر، حيث تمّ اعتماد خطط وقائية صارمة، منها إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية، إغلاق المؤسسات العامة والخاصة، المصانع، المعامل، المدارس والمؤسسات التعليمية، الفنادق والمطاعم... بمعنى آخر، إقفال كامل القطاعات باستثناء القطاع الصحي وما يعنى به كما المحلات الغذائية. بالإضافة إلى إعلان حصر التجوال إلا للضرورة، أي إعلان الحجْر الصحي والتزام المنازل. بطبيعة الحال، هذه الخطوات ضرورية رغم أنها مؤلمة وموجعة للمجتمع اللبناني وتحديدًا للفقراء والذين يقتاتون من عملهم اليومي في ظلّ انعدام برامج الرعاية الاجتماعية التي من المفترض أن تقدّمها الدولة لأبنائها.
رغم هذه التدابير والإجراءات المتخذة للحد من انتشار هذا الوباء، إلا أنها تبقى ناقصة إذا لم يرافقها وعي المواطنين واستدراكهم لخطورة الأمر وحسّهم بالمسؤولية الوطنية تجاه أنفسهم والمحيطين بهم. ففي ظل هذا الواقع، يتباهى عديمو المسؤولية بسهراتهم وتجمّعاتهم واجتماعاتهم على أنهم أقوى من المرض وأنه مجرّد تهويل كلامي لا أكثر، عندئذٍ يشكّل هؤلاء الوباء الأكثر خطورة على المجتمع ألا وهو فقدان حسّ المواطنة ويكونون مصدرًا للمرض الجسدي والتخلّف الفكري لغيرهم سواء أكانوا من أفراد عائلاتهم أو أبناء وطنهم. عذرًا على هذا التوصيف ولكنها الحقيقة.
إن مشهدية الحجْر الصحي هذه لها أن تعمّق المأزق الاقتصادي والمالي الغارق به لبنان، ولها أيضًا أن تزيد من معاناة الفقراء. فبالإضافة إلى إقفال عدد كبير من المصانع والشركات تنيجة الأزمة الاقتصادية الحادة، مخلّفة وراءها أعدادًا مرتفعة من العاطلين من العمل يعانون من ظروف معيشية صعبة، وبالإضافة إلى "الحجْر" الذي يقوم به الصيارفة من خلال تحكّمهم بسعر صرف الدولار الأميركي بما يضمن لهم الأرباح الطائلة والسرقة المنظّمة، مستغلّة "حجْر" المصارف على أموال المودعين وتقطيرها لهم، بحيث لم يعد للمواطنين القدرة على الاستهلاك، وفي الوقت نفسه، تقييد الصناعيين والمستثمرين الذين باتوا عاجزين عن الإنتاج والاستثمار، وبالإضافة إلى "الحجْر" الذي يمارسه التجار من خلال احتكارهم للمواد الغذائية والتلاعب بأسعارها دون حسيب أو رقيب غير آبهين لما يمر به المجتمع، وكأنهم يرون في المواطن فريسة ينقضّون عليها ليلتهموها، جاء "الحجْر الصحي" ليعمّق الآثار الاقتصادية والمعيشية السلبية، إذ استطاع أن يعدم قوت الكثيرين الذين يرون في عملهم اليومي خشبة خلاصهم، وباتوا عاجزين عن تأمين قوتهم وعائلاتهم وهم لا يملكون حتى فلس الأرملة.
لم يكتفِ الحجْر الصحي أن يمسّ بلقمة الفقير فحسب، بل تمدّد ليفرض واقعه على عملية التعليم والتعلّم. فبعدما كانت المدارس تتخبّط بمشكلات مالية عديدة نتيجة عدم قدرة الأهل على سداد ما هو متوجّب، وبعدما سعت جاهدةً لتعويض فترات الإقفال القسري في انتفاضة 17 تشرين الأول، ها هي اليوم تواجه وباء الكورونا، عبر اعتماد طريقة التعليم عن بُعد كحلّ مؤقت ليكتسب المتعلم من خلاله معارفه. وقد أظهرت هذه التجربة عري واقع البنى التحتية اللبنانية وهشاشتها، إذ إن الشبكة العنكبوتية لم تتمدد على كامل البيوت وإن توفرت فهي بحالة رديئة. كما وأن البرامج التعليمية المستحدثة في اللحظة الأخيرة لم تأتِ بالمستوى المطلوب ولم تكن على قدر الآمال. لا يقف الأمر عند هذا الحد، بحيث إن الكثيرين يعانون من نقص أو عدم توفّر أجهزة الكمبيوتر نظرًا للأوضاع المعيشية المتردية أو لتعدّد المتعلمين داخل البيت الواحد. كل هذا شكّل عوائق أمام هذه التجربة الملزمة في هذا الظرف الاستثنائي حيث لا حلول بديلة متوفرة.
هذا الواقع الصحي المستجد أكد ضعف الإمكانيات المادية والصحية والرعاية الاجتماعية، ولكن، في الوقت نفسه، أظهر صلابة القيم الإنسانية التي يتحلّى بها اللبناني، الذي لم يألُ جهدًا لمساعدة أخيه الإنسان والوقوف إلى جانبه، هو الذي حمل بين يديه ربطة الخبز والدواء ليسند المحتاج، وهو الذي أخذ على عاتقه توزيع الإعانات والمواد الغذائية، وهو الذي هبّ ليكون طبيبًا ومسعفًا متطوّعًا لمعالجة المرضى رغم صعوبة الموقف.
بالإضافة إلى ذلك، ورغم الظروف المادية المتردية للمستشفيات حيث تواجه مشكلات جمّة سواء بنقص المستلزمات الطبية وعدم القدرة على استيرادها، أو بعدم قدرتها على الحصول على المال من مختلف الجهات الضامنة، إلا أنه أثبت القطاع الصحي وخصوصًا الحكومي أنه خط الدفاع الأول عن المريض والمتألم، فهو يتصدّى لهذا الوباء رغم القدرات والإمكانيات المتواضعة. فقد جنّد هذا القطاع ومن دون تردّد طاقمه الطبيّ لخدمة المرضى وقد وضعوا كامل إمكانياتهم من أجل إنقاذ أرواحهم. فألف تحية لأولئك الجنود الذين يجهدون ويسهرون لتأمين الشفاء الجسدي لكل متألم، عسى أن يكون لمطالبهم المحقّة صدىً في ضمائر الحكام!
رغم نقمة وباء الكورونا على لبنان كما العالم، يمكن استخلاص دروس عديدة تكون منصّة انطلاق لوطنٍ أفضل ونعمةً لأهله. فبعدما تكشّفت العيوب في بنى التكنولوجيا ونقص التجهيزات والرعاية وضعف العديد والعتاد وتحديدًا في القطاعات الحكومية... على المعنيين أن يسعوا جاهدين من أجل النهوض بوطنٍ يضمن رعاية أبنائه وتأمين متطلّباتهم المتنوعة من اجتماعية واقتصادية وثقافية واستشفائية.... وأن يعتبروها صفعة خدٍ توقظهم للبدء في بناء وطن.
الدكتورة بياريت فريفر