(علي حكمت شعيب/ أستاذ جامعي)
في ظلّ الأزمة الصحية المتمثّلة بفيروس كورونا وما رافقها من إجراءات وقائية وعلاجية، وحملات توعية صحية، وكمّ هائل من المعلومات والأفكار والآراء، والتوقعات والإقتراحات، والإشاعات والدعايات والإعلانات، والنجاحات والإخفاقات على الصعيد الوطني والجماعي والفردي.
وسط هذا الضجيج القوي والصّخب الإعلامي انتشرت حالة من الخوف، من حيث لم يتوقع القائمون على حملات الوقاية والتوعية والدعاية والإعلان، وارتقت إلى حالة هلع مجتمعي، كانت محمودة بَداية في درجتها المنخفضة والمتوسطة، وذلك لمساهمتها في ردع الناس عن الإختلاط وإلزامهم بالتباعد الإجتماعي، ودعوتهم الى الإلتزام بالإجراءات الوقائية، لكن ما لبثت أن ارتقت إلى درجة مرتفعة أصبحت معها مؤسسة لحالة نفسية تُضعف الجهاز المناعي للمريض وتُحبطه نفسياً ولا تُساعده بالتالي على الشفاء، وتفرض طوقاً إجتماعياً قاسياً عليه وعلى عائلته وأقاربه ومُخالطيه، لا سيما إذا ما اقترنت مع بعض الإعلانات والفيديوهات غير المدروسة من الناحية النفسية والإجتماعية، لكيفية التعاطي معه حياً، ودفنه ميتاً.
فبعض لجان التحقّق والترصّد للوباء يُبالغ أفرادها في لباسهم الوقائي، حتّى يحسبهم المرء أشباحاً آتين من كوكب آخر، لخطف المريض وترويعه مع أهل بيته وجيرانه، لا لإنقاذه وأخذه إلى المستشفى ليَبدأ رحلة العلاج.
والكثير من الحملات الإعلامية دعايةً وإعلاناً تُبالغ في شرح مخاطر الوباء، توخّياً للوقاية منه، وتُصوّره في ذهن المشاهد وكأنّه الطاعون الذي لا يبقي ولا يذر، مع أنّ الواقع يشير أنّنا في لبنان قد بلغ إجمالي عدد الوفيات لدينا حوالي ال ٢٦٠ حالة، أي ثلث معدل الوفيات اليومية في ولاية نيويورك الأمريكية التي يشكل سكانها ثلاثة أضعاف سكان لبنان، وقد بلغ العدد الإجمالي لوفياتها جراء الوباء حتى اليوم ٢٤ ألف حالة، أي ما يزيد بِ ٩٢ ضعفاً عن العدد الإجمالي لوفيات لبنان، مما يعني أنّنا في لبنان آمنون في بلدنا بنسبةٍ كبيرةٍ جداً مقارنةً مع ولاية نيويورك الأمريكية.
أمّا المادّة الإعلامية المرئية التي تُصوّر دفن مرضى الكورونا، فحدّث ولا حرج، إذ أنّها تُبالغ إلى حدّ الإسراف في إجراءات الوقاية من لباس وأقنعة وكمامات وكفوف يرتديها من يتولى الدّفن، والتي هي أعلى درجة في الحذر من تلك المتّبعة فيما لو كان المريض حياً، حتى أنّ المُشاهد يُخيّل إليه أنّ المتوفَّى سيأتي إلى من يدفنونه ليُعديهم لذلك فهو رجس يجب اجتنابه، ويسري ذلك بطريقة غير مباشرة على عائلته ومخالطيه.
والمرء يتساءل هنا، إذا كان التباعد الإجتماعي الآمن مع الحي هو متران، فما المبرر أن يكون التباعد مع الميّت أكثر من ذلك، وإذا كان المتوفَّى يُلفّ بكيس من البلاستيك، فكيف السبيل ليقفز هذا الفيروس إلى الحي الذي يشارك في الصلاة أو في الدفن، وما المصلحة من المبالغة في إجراءات ولباس الوقاية معه وكأنّ ملائكة العذاب هي التي تقوم بدفنه في مشهد درامي مُثير للخوف والجزع ومحرّك للحسرة والألم.
فمن يتحمّل مسؤولية هذا الإسراف الذي تحوّل إلى حالة من النفور الإجتماعي عن المصاب بالمرض وأهله، حيّاً كان أو ميّتاً، مع ما يرافقه من حالة مقيتة تستشعر العار عند المصاب وأهله ومحبيه وتؤذيهم من الناحية النفسية، وتدعوهم لتأخير إرساله إلى العلاج حتى يستفحل فيه المرض فيصرعه قبل أن تُدركه يد العلاج، وتأمرهم بالدفاع عن أنفسهم إذ أنهم في أعين الناس حاملون للفيروس حتّى قبل صدور نتائج الفحص الطبي، منشئة لأحقاد ونزاعات وثارات إجتماعية لا تنتهي مع ذهاب الوباء، وقد تكون في بعض تداعياتها مؤذية أكثر من الوباء نفسه، إذا ما تطوّرت وأدّت إلى نقض عرى النسيج الإجتماعي بما تولّده من ضغائن وبغي وعدوان وقتل للنفس المحترمة.
ومن المسؤول عن إثارة هذه الظاهرة الخطيرة؟
وأين التدبّر في النظر إلى التداعيات والعواقب، لا سيما النفسية والإجتماعية منها، للإجراءات المتّخذة في سبيل إدارة هذه الأزمة الصحية وقايةً وعلاجاً.
وهل من الحكمة أن نولّد وباءً نفسياً وآخر اجتماعياً من رحم الوباء الصحي.
هذه دعوة إلى التقييم والمراجعة والتدقيق والتقويم، عسى أن يساهم ذلك في مسار الخروج من هذه الأزمة وتداعياتها، لا سيما النفسية والإجتماعية منها.