د. محمد مشتهى (طبيب فلسطيني- غزة)
قبل قليل كنت أتحدث مع بعض الزملاء في المستشفى، ودار بيننا استفسار عن سبب الانخفاض الحاد في عدد المرضى الأطفال الذين يترددون على قسم استقبال المستشفى (مع تمنياتنا للجميع بالسلامة).
أحدهم يقول: إن سبب الانخفاض هو الخوف الشديد لدى الناس من جائحة كورونا فلا يخرجون من بيوتهم، وقال آخر: إن الفقر وقلة توفر ثمن المواصلات مع الناس هو سبب عدم مجيئهم للمستشفى، وقال ثالث: الناس صارت تُفضل الذهاب لطبيب خاص بدلا من الذهاب للمستشفى.
إن كل ما سبق يبقى محل اجتهاد وقد يؤثر، لكن تأثيره يبقى محدود جدا، لكنه لن يخفّض أعداد المرضى الى أقل من 50%، فالناس حتى في الحروب كانت تأتي للمستشفى، حتى الفقر لن يقف حائلا أمام أب أو أم من أن تأتي بطفلها الى المستشفى عندما يكون مريضاً.
في مثل هذه الأوقات من كل عام تكون موجات مرضيَّة من النزلات المعوية وغيرها تجتاح عالم الأطفال ما دون سن 5 سنوات، وتكون في مثل هذه الأوقات أعداد المرضى في الاستقبال تتجاوز ال 200 فأكثر يوميا، أما الآن فإن عدد المرضى المترددين الى الاستقبال بالكاد يبلغ 50 أو 70 مريضاً يوميا، إذاً ما الذي قلَّل هذا العدد؟
ذهبت الى موقع CDC العالمي، وأخذت منه بعض الإحصائيات السريعة مثل:
♦ غسيل الأيدي بالماء والصابون يقلل الوفيات الناجمة عن أمراض النزلات المعوية بنسبة 50%.
♦ غسيل الأيدي وحده يمنع 1800000 شخص من الموت سنويا.
♦ غسيل الأيدي يقلل من أمراض الجهاز التنفسي بنسبة 16%.
وكثير من الإحصائيات المذهلة التي بمجرد التجول في هذا الموقع تأخذك الى أرقام مليونية تخص العديد من الأمراض فقط لمجرد غسيل الأيدي أو الأخذ بالاحتياطات الوقائية.
السبب
نتيجة جائحة كورونا وغياب لقاح للفايروس جعل طرق الوقاية هي السبيل الأوحد في مواجهته حتى اللحظة، مما اضطر الكثير من الناس للانتباه أكثر الى طرق منع ومكافحة العدوى والتي يتربع على عرشها غسل الأيدي.
فايروس كورونا جعل الناس ليس فقط تهتم بغسل الأيدي، بل بتطهير البيوت والأماكن العامة والخاصة بمادة الكلور التي تعتبر من المطهرات القوية والفعالة منذ القدم حتى يومنا هذا، وهي بالمناسبة مادة مطهرة متوفرة ورخيصة، حتى أن البعض يطلق عليها مطهر الفقراء، ليس هذا فحسب، فايروس كورونا جعل الناس يتسابقون لشراء الصابون والديتول والمطهرات والكحول جل وما إلى ذلك من المطهرات، وجعل العديد من الناس يتجنّبون الاختلاط، وجعلهم لا يقتربون من الشخص المريض سواء بانفلونزا او غيرها، جعل العديد من الناس يضعون في جيوبهم علبة مطهر للأيدي يستخدمونها بعد ملامستهم للأشياء، جعلهم لا يتصافحون ولا يربِّتون على أكتاف بعضهم البعض، وجعلهم يقبلون التعازي في موتاهم الكترونيا، ويغلقون صالات الأفراح والمطاعم والمساجد وأي مكان يؤدي للتجمعات، وجعل الشرطة تنادي على شاطئ البحر لتحذر الناس وتدعوهم للعودة الى بيوتهم، وجعل البعض يمسك منديلا عندما يريد أن يفتح باب السيارة أو عند إغلاقه، وجعل بعضهم يرش مادة مطهرة على مقبض السيارة قبل ان يلمسه، وجعل بائع الخبز والفلافل وحتى بائع الفجل يرتدي قفازاً...
كل تلك الإجراءات والاحتياطات الوقائية كانت كفيلة بأن تحد من جميع الأمراض سواء تلك التي تسببها الفايروسات أو البكتيريا أو الفطريات، وبالتالي الحد من عدد المرضى المترددين على المستشفيات.
نحن الآن نشهد انتفاضة المطهرات، تلك الانتفاضة الصحية لو استمرت وأصبحت ثقافة ولو حتى باجراءات أقل من المتبعة الآن، فانها مؤكداً ستقلل ليس من الأمراض فقط، بل أيضا ستقلل من معاناة المرضى، وستقلل المصروفات الصحية وشراء العلاجات وستعمل للحد من التحويلات للخارج، وستقلل من استهلاك المستلزمات الصحية.
إذن هي دعوة لاستنهاض ثقافة اتباع غسيل الأيدي باستمرار وليس بشكل موسمي سواء كان هناك وباء كورونا أو لم يكن، هي دعوة لأخذ الاحتياطات الوقائية التي تمنع من نقل العدوى سواء كان فايروس كورونا أو لم يكن.