إيهاب شوقي (كاتب مصري)
بعد كلّ اللْغط العلمي والإعلامي والذي اختلطت به التّوعية مع التّخويف وزرع التّشاؤم والرْعب، وكذلك التّحليلات والإنطباعات التي اختلطت بالتّقارير العلميّة والتّجريبية، ناهيك عن نظريات المؤامرة المبالغ بها والتي لم تجعل الشكّ فضيلة، بل حوّلته إلى مرض مُثير للسّخرية، نجد أنفسنا أمام واقع ملتبس وبيئة مجتمعيّة غير مقاومة.
فالشّروط الأبرز لتشكيل البيئة المُقاومة للأوبئة والكوارث، هي العلم والوعي والإرادة، وهي شروط باتت مفقودة وسط التّشويش وسَيل المعلومات غير المُنضبط، وأساليب التّوعية غير الرّشيدة والتي تتّسم بالتّسييس إمّا بالتّهويل أو التّهوين وفقاً لما تُريده السّلطات ووفقاً لما يُريده أصحاب رؤوس الأموال التي تُدير الإعلام.
أمّا الإرادة فهي محصّلة للمُجتمعات وإيمانها وظروفها السياسيّة والاقتصادية والثّقافية، وهي في مجتمعاتِنا العربيّة ذهبت ضحية لسوء حالة هذه الظروف بجميع عناوينها.
الشّاهد أنّنا في بيئة لا يُمكن أن نُطلق عليها بيئة مقاومة للطوارئ وللكوارث ومنها الوباء الراهن والذي يتفشّى يوماً بعد يوم دون مواجهات رشيدة، سواء من الشعوب أو الحكومات، وتتساوى في ذلك، حكومات الدّول الكبرى والدول الفقيرة أو النّامية، إلّا فيما ندر من حكومات تُحاول الإستقلال والإجتهاد في وضع حد للتّفشي، والحصول على حدّ متيقّن من طبيعة المرض وتداعياته ومستقبله.
لقد كشف انتشار الفيروس عن أشياء كثيرة كانت مطمورة تحت الرّماد، وشكّل محطّة للفرز يُمكن أن تعدّ إحدى الفُرص رغم ما يشكّله من كارثة.
فقد كشف الإنتشار عن حجم الأنانية التي تتمتّع بها الدول الكبرى، وكذلك بعض القطاعات الشّعبية، كما كشف عن حجم اللّامبالاة لدى شعوب كثيرة وكذلك حجم هذه الشعوب لدى حكوماتها وتقدير هذه الحكومات لها.
كشف أيضاً الفيروس عن حجم الدّجل وتفشّيه في الإعلام الحديث وخاصةً في مواقع التّواصل وموقع "يوتيوب"، كما كشف حجم التّفاعل مع المواد المقدمة، قدراً كبيراً من استعداد قطاعات واسعة من الشعوب لتصديق الخرافات والتّعاطي معها بجدية.
ولعلّ الأخطر من تحوّر الفيروس أو أعراض اللّقاحات الجانبية، أو حتّى فشلها، هو انعدام وجود البيئة المقاومة، لأنّ ذلك سيسمح بمزيد من التّفشي ومزيد من التّداعيات الخطيرة، ويُمكن أن تخرج الكارثة عن نطاق السّيطرة.
فالبيئة المُقاومة يُمكنها وقف الإنتشار ومحاصرته بما يسمح بفرَص للعلاج ومُناخ ملائم للوقاية واكتشاف الحلول، وهذا يشترط، كما سبقت الإشارة، إلى علم حقيقي غير مختلط بترجيحات أو آراء أو وجهات نظر أو انطباعات لغير المختصّين.
كما يحتاج إلى توعيات غير مسيّسةـ تارة تدفع نحو الإغلاق وتارةً نحو الإنفتاح ومناعة القطيع، وفقاً لهوى السّلطات وظروفها وتوازناتها.
والعامل الأهم هو إرادة الشّعوب والتي تنبثق من ثقافتها وظروفها والطّريقة الرّشيدة للتعبئة الجماهيرية، والتي لا تنفصل عن الروح العامّة والإستقلال الوطني ومواجهة الاستعمار.
نعم، وليس من المبالغات أن نقول أن الإنبطاح أمام المستعمر والرّضا بالتّبعية والصّمت على الخيانة والتّطبيع، هي أشياء متعلّقة بهمّة الشّعوب وإرادتها وطرق تعاطيها مع الكوارث الطبيعية والأوبئة. فالمعارك لا تنفصل، وكل معركة تتطلّب روحاً وثقافة مقاومة، والإنبطاح للإستعمار يعني استسلاماً للوباء، واللّامبالاة بالخيانة تعني لا مبالاة بالإنتشار والتّفشي للوباء. وكذلك الوعي لا ينفصل، فالوعي بالاستعمار وبالحقوق يعني وعياً بالأوبئة وبالوقاية، وروح الوحدة والتّضامن، تعني التّكاتف والتّعاون لحصار الوباء وعلاج الضّحايا.
صحيفة كورونا مليئة بالهوامش التي يجب التْوقف أمامها بالتّأمل والدّراسة، حتّى تتحوّل إلى فرصة، أوّلاً للمواجهة، وثانياً لقطع الطّريق على المزيد من الكوارث أو على أقل تقدير حسن التّعامل معها مبكراً.