(دراسة في مجال علم النفس - الاجتماعي)
د. نزار ابو جودة (استاذ في الجامعة اللبنانية)
حمل الوباء "كورونا" في طياته المآسي وجلب الويلات وجعل البشرية جمعاء تئنّ وجعا وحزنا. حصد وما زال يحصد الأرواح. وفرض نفسه بالقوة وأرعب الناس وأجبرهم على ما أصبح يعرف اليوم بالحجر الصحي و"التباعد الاجتماعي" حتى عن أقرب وأحبّ الناس.
لقد تمكن هذا الفيروس من قلب الحياة التي عرفها واختبرها وعهدها الانسان-الاجتماعي رأسا على عقب. مجتمعات الأرض بأجمعها تشهد في الفترة العصيبة هذه تغيّرات جذرية في نمط حياتها اليومي بدءاً من العادات اليومية والتفاعل الرمزي - الاجتماعي في أبسط أشكاله وصولا الى كلّ متطلبات حياة الامم واستمرارها.
من كان ليتخيّل على سبيل المثال أنّ التوقف للتكلم مع صديق أو جار التقاه صدفة، قد يصبح من الأمور التي يجب أخذ الحيطة والحذر فيها؟ فالمحافظة على المسافة الضرورية المانعة لانتقال العدوى أصبحت من قواعد هذا التفاعل العادي البسيط.
من كان ليتصوّر أنه سيأتي اليوم الذي سيكون فيه الامتناع عن مصافحة جار أو زميل في العمل أمرا مقبولا ومفروضا خوفا من انتقال الوباء؟ ومن فكّر يوما بعدم الخروج من المنزل خوفا من التقاط العدوى؟ وبدل الترحيب بالزوار في هذه الايام أصبحوا موضع خشية وصدّ. وماذا عن الجلوس في مقهى أو مطعم مع أصدقاء للتسامر والتسلية أوحتى السير في الشارع بين الناس؟ كلّها أمور أصبحت من كماليات أو بالأحرى من ترف وامتيازات زمن ولّى بعد أن فرض على الانسان التخلي عنها درءاً للمخاطر وحفاظا على الحياة.
من كان ليتخيّل منذ أربعة أشهر أو أكثر، أي قبل ظهور هذا الوباء، هكذا تغيير جذري في أبسط أمور الروتين الحياتي؟!
ما تختبره المجتمعات اليوم كنتيجة للجائحة التي ما زالت تحصد الأرواح وتفرض التغييرات الدراماتيكية، غير مسبوق على الاقل في ما يخصّ الخمسين أو حتى المئة سنة الماضية! وهو الأمر الذي يسمح لنا بالقول إنّ ما سيكون بعد الكورونا لن يشبه ما قبله على مختلف صعد الحياة النفسية والاجتماعية.
أما إذا أخذنا بعين الاعتبار ما تكشّف من وقائع ومعطيات جديدة شكّلت نوعا من الفضائح على علاقة مباشرة بكثير من المفاهيم والانظمة والافكار والتي كان يعتبرها الكثيرون من المسلّمات نسمح ساعتئذ لنفسنا بالقول إنّ ما بعد الكورونا لن يكون كما قبله ولا يجب أن يكون.
الـ "يجب" السابقة هي في معرض التشديد على ما فضحه للعيان هذا الوباء من لا إنسانية بعض الأنظمة وثغرات بعض المفاهيم والسياسات التي تحكم معظم أنحاء المعمورة اليوم. الوباء كورونا أظهر للبشرية جمعاء أنّ المجتمعات لا تعاني من أزمة صحيّة فقط بل هي مصابة بأزمة أخلاقية أيضا جراء سيطرة الانانية الفردية المصلحية النفعية وغياب روح الاخاء الوطني فيها والمحبة العابرة للأديان والطوائف في جسم الاوطان الواحدة. وهي كذلك الامر مصابة بأزمة اقتصادية نتيجة فساد الاخلاق وتوحّش النظام الرأسمالي العالمي وتغطّيه بتنظيرات عولمية لا تسمن ولا تغني من جوع.
وهذه المجتمعات مصابة أيضا بأزمة اجتماعية جراء غياب الوعي الاجتماعي الفعلي وهيمنة العلاقات الفئوية المصلحية على كل ما عداها.
والحقيقة أنّ الكورونا سيف ذو حدين فبقدر ما يوجع الانفس بقدر ما بإمكانه أن يفتّح البصيرة النقدية والاعين على حقائق كان الناس قد أغفلوها منذ زمن وذلك لعدة أسباب منها التأقلم مع الواقع الاليم ومنها النظرة الى الواقع هذا والتعامل معه وكأنه القضاء والقدر.
ومن هذه الحقائق، حقيقة أنّ ما يعرف بالنظام العالمي الحالي والمعروف أيضا تحت مسمّيات وعناوين فخمة وجميلة كالعولمة والرأسمالية والليبرالية والديمقراطية ومنظمات حقوق الانسان والحيوان والحشرات وغيرها، هو نظام أقل ما يقال فيه إنه قاس لا يعرف الرحمة، هو نظام عنصري فاسد وجائر، نظام الواحد بالمئة (وراء الكواليس) الذين يستغلّون الـ 99 بالمئة الآخرين. هو نظام، عدّة "الشغل" - العمل لديه وجع الناس واحتياجاتها فيتاجر بها ويسخّرها لمصالح القلّة القليلة التي تحكمه. نظام يترك كبار السن يتأوهون ويموتون بدون أية مساعدة تذكر فهو يرى فيهم عائقا في وجه سيران الدورة الاقتصادية وعبئا على صناديق الضمان والتقاعد.
هو نظام يقوم على فلسفات جزئية مادية بحتة حيث الانسان هو الفرد المادي الاستهلاكي الموجّه الذي يختصر دوره باستهلاك ما يتم إنتاجه ولا قيمة له خارج هذه الوظيفة. وما أبلغ "ودّعوا أحبابكم" الشهيرة في خطاب جونسون رئيس وزراء بريطانيا في التدليل على قيمة الانسان هذه. وبعد "ودّعوا أحبابكم" الشهيرة أطلّ رئيس الولايات المتحدة الاميركية ترامب لـ"يبشّر" شعبه والعالم أنّ وفاة 200 ألف أميركي بالكورونا سيكون رقما جيدا! جيّد لماذا؟ وبالنسبة لمن؟ وعلى أساس أية معايير وأية أخلاق؟! وكأني بهذين الاثنين يعيداننا الى قرون مضت حيث البقاء للدارويني الأقوى أما الضعيف فليمت لا حاجة له ولا منفعة منه..ودّعوه! وكأني بهؤلاء "القادة" يتعاطون مع الانسان وكأنه آلة متى صدئت أو توقفت عن العمل رموها واستبدلوها بأخرى تقوم بالمطلوب منها! وكل ذلك والمنظمات الدولية في صمت مهيب! لم يسمع العالم كلمة واحدة من الامم المتحدة وتفريعاتها ولا من المنظمات الدولية التي تدّعي الدفاع عن حقوق الانسان كلمة تستنكر أو تعترض أو تنتقد في الحد الادنى!
ومن تابع وحلّل خطابات بعض "قادة الدول العظمى" في الغرب، في الشكل والمضمون، يعرف تمام المعرفة أنّ هذه الخطابات قد قدّمت المصلحة المادية ومسيرتها على كل ما عداها من حياة الناس وصحّتهم النفسية والعقلية والجسدية. ولم يتغيّر هذا الامر إلّا حين فرض الواقع الشعبي المأزوم نفسه على الخطاب فتغيّر شكلا وبقي مضمونا وفعلا لا يرقى الى مستوى أوجاع الناس وخساراتهم. وهنا لا يسعنا إلّا ملاحظة الفرق الشاسع بين هذه الخطابات غير الانسانية وغير الاخلاقية لحكومات وقادة غربيين وخطاب قائد المقاومة، الانساني والاخلاقي، الشامل والراقي، المتفهم والتوعوي..وعذرا على المقارنة لأنّ المقارنة لا تجوز!
الكورونا عرّى بعض الانظمة الغربية وطرق تفكيرها وعملها، فضحها وبيّن نقاط ضعفها وثغراتها. خذوا على سبيل المثال ردات فعل بعض القيادات والحكومات في ما يعرف بالدول العظمى الغربية والتي لم ترق الى مستوى التحدي فكان الاستخفاف من قبلها بداية والاستهانة بأرواح المواطنين، ثم النقص والاخفاق في تأمين متطلبات الوقاية من الوباء. والكلام حول الاخفاق يصحّ في الانظمة الصحيّة والاستشفائية لتلك البلاد كما يصحّ في كافة مجالات تأمين الادوية والغذاء والسلع الضرورية وضمان المحتاجين من أجل البقاء والاستمرار.
ومن ناحية ثانية، من تابع بدقّة ردات فعل المواطنين في هذه الدول والانظمة تأكّد من دور الكورونا في فضح مدى تدهور حالة الثقة المتبادلة بين الشعوب وحكوماتها وقادتها خاصة في بعض الدول الكبرى التي تدّعي الديقراطية والحريات وقد سبق وشنّت حروبا وغزوات تحت شعار الدمقرطة ونشر الحريات. في نفس السياق، هو الكورونا الذي دفع بالكثير من المفكّرين والعلماء في الغرب والشرق الى طرح أسئلة قديمة في المضمون ولكن جديدة في الشكل حول ماهية الانتخابات في هذه الدول التي تدعي الديمقراطية. هل هي انتخابات حقيقية فعلية أم لعبة سلطة ونفوذ وامتيازات؟ هل هي فعل واع دقيق قائم على المعرفة أم مسألة شكلية إعلامية إعلانية قائمة بمعظمها على التلاعب بالرأي العام وشراء الضمائر والاصوات؟ وبماذا تختلف في هذا كلّه هذه الدول "الديمقراطية" عن دول ما يسمى بـ "العالم الثالث"؟ وفي هذا الاطار نسأل أيضا: من كان ليتخيّل قبل الكورونا أنّه سيأتي يوم يحسد فيه الفرنسي والاميركي والانكليزي اللبناني على حكومته وعلى كونه ولد في لبنان ويعيش فيه في زمن الكورونا؟ ومن مرّت على ذهنه فكرة يوما، وفحواها، أنّ اللبناني سيشكر ربّه أنّه في لبنان وليس في إحدى هذه الدول الغربية التي لطالما نظر اليها على طريقة كل شي فرنجي برنجي انطلاقا من أزمة الهوية وعلاقتها بعقدة الدونية لديه؟
الكورونا أجبرنا على إعادة النظر في مسلّمات لطالما اعتبرت وخاصة على المنابر الدولية وفي وسائل الاعلام كحقائق وثوابت متوافق عليها. كما أنّه أجبرنا على التدقيق والتحليل أكثر في مفاهيم الحرية والمسؤولية والنظام والادارة والقوة..فمن هو الاقوى على سبيل المثال؟ الاقوى هو البلد الذي يملك ترسانة عسكرية نووية وغير نووية تطال القارات كلّها يستخدمها ويرهب العالم بها غير آبه بالارواح فهي مجرد أعداد تطحنها آلته الجبارة في سبيل مصالحه.. في حين ويا لسخرية القدر يترك أبناءه يموتون على قارعة الطرقات بسبب ندرة أجهزة التنفس وعدم اهتمامه المسبق بها وبصحة المواطنين؟ هذا البلد العظيم عسكريا واقتصاديا والمفكك اجتماعيا والفاشل صحيا واستشفائيا وإنسانيا هو الاقوى أم البلد الضعيف عسكريا واقتصاديا ولكن المتماسك اجتماعيا وأخلاقيا والذي يقدّم صحّة أبنائه على كلّ شيء آخر فيضحي بالغالي والنفيس لانقاذ الارواح والحفاظ على المجتمع بكباره وصغاره برجاله ونسائه؟ إنّ الصراع والتنافس الشديد على الكمامات الذي شهدناه بين الدول العظمى في الآونة الاخيرة يجعلنا نعيد الحسابات ونطرح التساؤلات حول معنى ألفاظ وتسميات مثل العولمة وقوة وقدرة الدول ..حتى إذا ما تعمقنا أكثر فأكثر طرحنا السؤال حول المعنى العميق للمجتمع الدولي والامم المتحدة وصولا الى الدولة والمواطنة وغيرها!
لا شكّ أنّ وباء الكورونا اليوم يشكّل مفصلا رئيسيا في تاريخ الانسانية وجزءا أساسيا في عملية تكوينه وبالتالي تكوين الانسان والمجتمعات على كافة المستويات المادية والنفسية.
لقراءة الجزء الثاني اضغط هنا